يوسف الخال

1917-1987 / سوريا

الحرية - Poe

أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العتمة
مسرى ، وملعب الشمس مغنى
أَتملَّى وجه الحقيقة أَيان
تراءَى ، وأَيَّ فعل تبنّى
فأَحيك الرؤى ، روى العقل ، فكراً
يتجلَّى مع الزمان ، ويغنى
أَيّ فكرٍ يؤرخ الناس أَجيالا
ويبني لغاية الكون معنى
ويردّ الفناءَ وهماً ، وطيفَ الحقّ
دنيا ، وقوةَ الشرِّ وَهْنا
أَنا حرٌّ يا ربِّ ! ما أَنت حرٌّ ؟
ما وجودي ، تُرى ، إذا كنتَ عبدا
شيمةُ الحرّ أَن يروّض أَحراراً
ويأْبى إلا التحرر مبدا
'كن كما شئت' سنّة الله في الكون
تناهت إلى الخليقة عهدا
'كن كما شئت' هكذا أَنت إِنسان
وكنْهُ الإنسان أَن لا يُحَدّا
حدُّه - إن يُحدّ - حرّية تسمو
وتقتاده إلى الخير عمدا
أَنا حرٌّ يا ربّ ! حرّيتي كنهي
أَرود الجمال فجراً وفجراً
كُلُّ فجرٍ أَروده أَفرشُ الارض
ضحايا ، وأَفجُرُ الدمعَ بحرا
فكأَني وُجدتُ كي أَجتلي كنهي
وأَجني حقي رويداً وقسرا
وكأَن التاريخ ساحةُ حربٍ
بين حرٍّ وبين من كان حرّا
أَتُرى جوهرُ الخليقة حرّية أَولى
بمن فاز في النضال وأَحرى؟
أَنا حرٌّ يا رب ، حرٌّ : ليَ العقلُ
جناحٌ وذروة الحق مرمى
يا إلهي شدّدْ جناحي ، وزده
قوة منك ، فهو غضٌّ - ومهما
همَّ من نفسهِ وحلَّقَ أَجواءً
وطوّى من العلاءِ وضمّا
ولا تزالُ الرياحُ تلوي خوافيهِ
وتهوي بهِ إلى ما تَعمّى
فيصيرُ الوجودُ غمرَ ظلامٍ
وتصير الحياة طيفاً ووهما
يا إلهي شدِّدْ جناحي : فما يكفيه
علمٌ ، مهما تساميتُ علما
أَنتَ أَدرى بهِ ، فلو ينفع العلمُ
لما زادتِ الخليقة إِثما
ولما جئتَ ههنا تفتدي العقلَ
وتروي أَنَّ المحبّةَ أَسمى
هبهُ من عندكَ المحبّةَ يا ربَّ
وزوّدهُ بالمحبّة فهما
فاذا بالرياحِ غيرُ رياحٍ
كلّما قارب الوصولَ ولمّا
ربِّ هبني محبّةً ، فبها أُدركُ
حريّتي وأَعرفُ نفسي
أَنا ، إِن لا أُحبُّ ، ما نفع عقلي
لخلاصي ، وباطلٌ كلّ بأْسي
فخلاصي ، أنا المسيَّرُ بالغيبِ
ومَن يومُهُ منوطٌ بأَمسِ
إِنما تمَّ بالمحبة والعقلِ
فلولاهما أَغوصُ برجسي
نعمةٌ أَستحقها ، إِنْ أَنا آمنتُ
وطوَّعتُ للحقيقةِ حِسِّي
أَنا حرٌّ يا رب ! في أَضلعي شوقٌ
إلى رؤية الحقيقة حرّا
شاهدٌ ، إِن رأَيتُها ، معلنٌ عنها
صراحاً لدى الخليقةِ طرّا
مفتديها بالروحِ إِنْ رام عبدٌ
طمسَها خيفةً ، وجهلاً ، وغدرا
ويح نفسي ، ما أَتعسَ الحقَّ في الدنيا
فكم مرةٍ يُباع ويُشرى
كلُّ شيٍ ، لدى العبيدِ ، حلالٌ
غيرَ شيءٍ : قولُ الحقيقةِ جهرا
إيهِ حريتي ! تذكرتُ بالأمس
صراعي مع الزمانِ وبؤسي
أَنا في مصر بالعبودية عُمّدتُ
فشبَّت على المذلَّة نفسي
وحسبتُ الخلودَ بالجسدِ الفاني
فعمّرت بالجماجم رمسي
هَرَماً ، يسحق الفناءَ بكفَّيهِ
ويضحي مع البقاءِ ويمسي
إِنَ من يطلب الخلود على الأَرض
كمن يُفرغُ البحار بكأْسِ
وعلى شاطئ الفرات سأَلتُ النجمَ
عن حاضري وعن أَحلامي
أَغنم العيش برهةً قلَّ جدواها
وعزّت مصحوبةً بالسلام
لا خلودٌ بعد الممات لنفسي
ومصيري مغلَّفٌ بالظلامِ
كنتُ عبداً للعيشِ ، للموتِ ، للشرِّ
وعبداً للخوف والآلام
أَجهلُ الله ، أَجهلُ الحبَّ والحقَّ
وحرّيتي من الأَوهامِ
ويحَ أَشُّور ! كم سكبتُ بها الدمع
وغيّبت في ثراها النفوسا
رافعاً فوقها من المجدِ مُلكاً
يتحدّى - إذا تُطلُّ - الشموسا
أيّ ملكٍ على العبوديةِ العمياءِ
يُبنى ، وما أُذِلّ وديسا
سلْ أَشوراً ، ورومةً ، والفراعينَ
وكسرى - سلْ نينوى ، والمجوسا
والأُولى طرّقت جيادُهُمُ البحرَ
وصبّت نعالها هندوسا
أَيُّ ملكٍ كذاكَ يُبنى على القوّة
يبقى ، فلا يزول ويبلى
أَين مجد العربان بعد ازدهارٍ
حطَّ في قمّة الجلال وحلّا ؟
أَين جنكيزُ فاتحُ الشرقِ والغربِ
نذيرُ الهلاك أَنَّى أَطلَّا ؟
أَين 'تيمور' قاهراً ، والسلاطينُ
غزاةً ، 'والبونابرتيّ' مولى ؟
هكذا يمّحي ظلام الليالي
ويفيءُ الصَّباحُ مهما تولَّى
إيهِ حرّيتي ! تذكرتُ بالأَمس
صراعي مع الزمان ونصري
أَنا في موطن الصنوبر والأَرز
تحرّيتُ عن حقيقةِ أَمري
فتحكمت بالطبيعةِ ، فانقادت
إلى فكرتي ، سريعاً ، وفكري
فإِذا العقل سيِّدٌ ، والأَمانيُّ
حبالى بكلِّ حبٍّ وخير
وإِذا الله واحدٌ في ربى القدس
وحرٌّ يسير بي حيث أَدري
يا لأَبرام ! يا للنبيّينَ من بعدُ
ولاةٌ على الحقيقة طفلَهْ
سكبوا في سبيلها الدمَ والدمعَ
وعاشوا من أجلها العمرَ كلَهْ
لهمُ ، دون غيرهم ، شرف الوعدِ
وإِنْ أَنكروا ، لدنْ تمَّ ، فِعلهْ
واستعاضوا عن الحقيقةِ بالوهمِ
وبالعيشِ دونها والتعلَّه
واكتَفوا بالتراثِ من قبلُ ، واهاً
أَينَ شأْن التراث إِنْ ظَلَّ قبلهْ ؟
ما لحريتي على ملعب الإِغريق
تُسقى ، غداة تظمأُ ، سمّا
أَيّ سمٍّ أَمدّ حرّية الفكر
بفيضٍ من الشجاعةٍ أَسمى
شرفٌ من يناله يصحب الحقّ
ويُجزى من المحبة نعمى
ذاك يومي ، نعمَّه ، ردّني حرّاً
أَرى غايتي من العمر وهما
إِنْ أَنا لا أَرود منتهلَ النور
وأَزداد للحقيقةِ فَهْما
أيّ سمٍّ ، أَقول ، غلَّ يد الليل
وأَولى على الصباحِ الخلودا
فإِذا بالأُلومب ملعب أَحرارٍ
تحدّوا على الزمان العبيدا
ينشدون الجمال ، والعدل ، والخير
ولاءً ، ويحْطمون القيودا
رافعين اللواءَ في موكب الفكر
جنوداً ، وحاملين البنودا
موكبٌ شيّد الحضارة من بعدُ
وأعلى إلى السماء الحدودا
يا لفتحٍ للفكر فتح أَثينا
أَين منه فتح السيوف البواترْ ؟
تمَّحي دونه العروش ، ويفنى
كلّ طاغٍ على الشعوب وقاهرْ
يا لفتحٍ للفكر ، مهّد للحقّ
سبيلاً ، وزفّ خير البشائر
هوّذا الله عن خطاياي مصلوباً
يريني وجه المحبّة سافرْ
فالتقى العالمان : الشرق والغرب
وشدّا على الوداد والأَواصرْ
إِيه حرّيتي - إِذا تمّ نصري
بفداءٍ من المحبة سمْحِ
فتحررت من عبوديّة الشرِّ
وفازت على الطبيعة روحي
فأَنا ما أَزال عبداً لنفسي
أَبتني من لذاذة الحسّ صرْحي
جائراً ، ظالماً ، أُكنِّن أَيامي
بدمعٍ ، من الشقاءِ ، وجرح
فكأَنَّ البقاء غاية عمري
أَدّعيها ، إذا تضنّ ، برمح
أَنا في عالمٍ من الخوف والإرهاب
صنعُ الفناءِ ، صنعُ يديّا
زائعٍ يحسب المحبّة وهماً
والتفاني في خدمة الحق غيّا
جائعٍ ظنَّ قوته ثروة الأَرض
وما كان جوعه جسديّا
فمضى في سبيلها يغرس الأَرض
حراباً ، ويستبيح البريّا
إِنّه الملْك ، كم يدنِّس أَقداساً
ويمشي في مأْتم المرءِ حيّا
أَين عهدٌ غيّبت حريتي فيه
بسجنٍ من التقاليد قاسي
أَخنق الفكر إِنْ تعدَّى حدوداً
رسمتها ، من قبلُ ، أَيدي الأُناسي
فالضحايا ، باسم الكنيسة والدين
ترامت مخنوقة الأَنفاس
تحمل النور في الليالي الدواجي
وتصبّ الزيوت في النبراس
مأْتمٌ للظلام تلك الضحايا
وهي للنور أَبهج الأَعراس
ذاك عهدٌ تصارع الفكر فيه
معَ سجّانه ، فنال انتصارا
فأَطلَّت حريتي تنسج الفجر
رداءً ، على الورى ، وإِزارا
وعليها من الجلالة إِكليلٌ
تسامى ، فزيّن الأَحرار
ولديها شوق النفوس إلى الموت
فداءً عنها ، إِذا ما توارى
واطمأَنَّت إلى يدٍ زندها غضٌّ
وترمي ، فتسحق الأَشرارا
وغداً ، عندما تعود السيوف
القضْبُ منصورةً إلى الأَغماد
أَترى ينتهي صراعي مع الشرّ
فأَحيا حرّاً إلى الآباد
أَصنع الخير ، أَنشد الحبّ والحقّ
وأَطوي الجمال ملءَ فؤادي ؟
نعمت لحظةٌ بها أَنا نفسي
لا كما شاءَ أَو أَبى أَسيادي
مطمئنٌّ إلى غدٍ ، أَزرع الحسنى
وأَجني المنى على ميعاد
يا بلادي حضنتِ ، من قبلُ ، أَمجاداً
وشيّدت في بناءِ الحضاره
تغمرين الأَمداءَ حباً وإِيماناً
وتعلين للجمال منارهْ
فعلى كل قمةٍ منك شيءُ
والليالي تناقلتْ أَخباره
أَيُّ فكرٍ في تربك السمح لم يزهر
فتجني يد الورى أَزهارهْ
فازدهى عالم ، وكنتِ له الفتح
وجلَّى ، فكان غاركِ غاره
يا بلادي ، وكمْ رفعت لواءً
سرمدياً في موكب الحريَّه
منك لقيان هازئاً بالسلاطين
وحرباً على النفوس العتيَّه
يرسل القول في الوجوه ويعلي
الحق ، رغم الأّذى ورغم البليَّه
منك أُولئك الذين 'تآخوا
للصفا' في عقولهم والرويَّه
والأَولى قيل عنهم 'اعتزلوا' الحق
وفي قولهم عمىً وأَذيَّه
ذاك أمسٌ مضى ، وما ينفع الأَمس
إِذا لم يكن لدى اليوم حيَّا
وأَبى الدهر أَن يجود ، فغامتْ
أَنجمٌ ، وارتمى جبين الثريَّا
وامَّحتْ شعلةٌ ، فساد ظلامٌ
في بلادي ، وطأْطأَ الفكر عيَّا
يحمل القيد في يديه ويمشي
في عبودية الضلال شقيَّا
موجةٌ أَسيويةٌ راعها النور
فأَرختْ حجابها البربريَّا
يا بلادي سلمت ، ما زال لبنان
قويَّ العماد ، لما يذلا
شامخ الأنف ، رافع الرأْس ، حرّاً
هانئاً ، دون غيره ، مستقلاً
ينحر الظلمة العتيَّة بالنور
ويبقى لدى الصباح المطلا
موئلاً يلجأُ الأُباة إِليه
ويوافيه كل حرٍّ ومولى
ما تراه إلا تفرَّد في الشرق
بأَسمى من البقاءِ وأَغلى
يا بلادي ، أَودعت عندك آمالي
وأَسلمت في يديك القيادا
أَنت للغير قوة تشهر السيف
وتبني ، على الفتوح ، العمادا
يا بلادي ، وانت لي موطنٌ حرٌّ
تسامى محبةً ورشادا
يحضن الفكر عبقريا ويمشي
في ركاب الحياة أَنى تهادى
يعربيَّ اللسان ، واليد ، والوجه
يولِّي شطرَ البحار الفؤادا
133 Total read