الجاحظ
'يبدو في وسط الحجرة شيخاً متهدماً مقعداً
لا تفارقه روح البشاشة والمرح. يشير بيده إلى
رفوف الكتب التي تملأ الحجرة من حوله
زَحَمتْني.. فما أُطِيقُ حَرَاكاً
في مكاني.. ولا أُسيغُ قُعودا
أثقلَتْ كاهلَ الجدارِ، فَبيتي
يتَشكّى رُكامَها مكدودا
الرفُوفُ الحُبْلَى، وأخشَى اذا ما -
لتْ - وُقيتَ الأذى - أكونُ الشهيدا
وَرَقٌ قِصَّتي هنا.. ومِدَادٌ
وَرَقٌ يَأْكُلُ الحياةَ نضيدا
كُتُبي.. لو أَبِيعُها بنشيدٍ
قِمَّةُ الحُلْمِ أَنْ تكونَ نشيدا
بحديثٍ حُلْوٍ تُقهقِهُ فيهِ
طُرْفَةٌ لا أَمَلُّها ترديدا
الرفوفُ الحُبْلَى.. تَجنَّب أَذاها
والتمِسْ إن وجَدْتَ رُكْناً بعيدا
هذهِ حُجْرتي.. وأَهلاً وسَهلاً
قَتَلَ الحرفُ عُمْرَنا تَفنيدا
الشاعر: أنا ضَيفُ التاريخ
الجاحظ: دَعْكَ من التاريخِ
لا تَقتَحِمْ سُكونَ الظلامِ
أنا تَوْقٌ إليكمُ وحنينٌ
وانتظارٌ مُرٌّ وراءَ الرُّكامِ
أنا تَوْقٌ أَمُدُّ طَرْفي إلى الآ -
تي، وحَسْبي مما أَراه أَمامي
إِدْفِن النُّوقَ في الفَلاةِ وخُذْني
مرةً في الأثيرِ.. فوقَ الغَمامِ
أنتَ آتٍ على قوادمِ 'عِفرْيتٍ'
يَجُوزُ الفضاءَ كالأَحلامِ
بجميعِ الذي كتَبْتُ نهارٌ
أمتطي الريحَ فيه من أيامي
آهِ.. ما أَرْوَعَ السحائبَ يَشمَخْنَ
ليلحَقْنَ ظِلَّكَ المُترامي
سبَقَ الفِكرُ يا صديقي رُؤَانا
طارَ خَلْفَ الظُّنونِ والأوهامِ
أَنْبأُوني أنَّ المراكبَ في الحوِّ
تَشُقُّ السماءَ مثْلَ السهامِ
تَصِلُ الأرضَ مِثْلما تَصِلُ الهُدْ
بينِ نجوى أو خَطْرةٌ في منامِ
أَنْبَأُوني أَنَّ السماواتِ صارت
- قُدِّسَ الربُّ- مَوْطِئَ الأَقدامِ
واذا الكوكَبُ المنيرُ ظلامٌ
وفَراغٌ كالموتِ، كالإعْدامِ
سَرقَتْ عمرَنا الأساطيرُ ما جَدْ
وى قُعودي في كَهْفِها وقيامي؟
لو تحرَّرْتُ ساعةً من قيودي
بالتحدِّي صرَخْتُ: هاكَ زِمامي
مَرْحَباً أيها الصديقُ.. وقلْ لي
كيفَ أنجو من هذه الأصنامِ؟
الشاعر: 'في صوت هادئ واجلال'
أيُّها الكوكَبُ المُشِعُّ على أَرضي،
يُضيءُ الأقلامَ جيلاً فجيلا
ما نزَلْتُ التاريخَ إلا لأَلقا-
كَ عِناداً يُروِّضُ المستحيلا
أنتَ بَوَّابةُ العصورِ تقحَّمْتَ
على العقلِ بُرْجَهُ المجهولا
عالَمٌ أنتَ من مِدادٍ وضَوْءٍ
عالَمٌ لا يموتُ، فاهدَأْ قليلا
أنا آتٍ على قوادمِ 'عِفْريتٍ'
اجُرُّ الدَّمارَ والتنكيلا
ليسَ لي من روائع العصر إلا
ما تراهُ ضَراعةً وخُمولا
القناديلُ في يديْكَ، فَعلّمْ
جيلنا كيفَ يُشْعِلُ القِنديلا
القناديلُ نحنُ تَذْكارُها المُرُّ
لو أنَّ التَّذْكارَ يُجْدِي فتيلا
قد حَملْتُم عِبْءَ، الحَضارة يوماً
وحَملْنا ضَرِيحَها إكليلا
الجاحظ: 'يرسل زفرة عميقة'
هَدَّني الليلُ، هَدَّني فوقَ أوراقيَ السَّهَرْ
أنَا جِذْعٌ مُهَشَّمٌ في فَمِ الداءِ يُحْتَضَرْ
كلُّ شيءٍ إلى البلى إنّها دورةُ الفَلَكْ
ليتَني عدْتُ سيرَتي بائعَ الخُبْزِ والسَّمكْ
الشاعر: مِنْ هنَا يَبْدَأُ السُّرَى كُلُّ صادٍ إلى الشَّفَقْ
من غَيابات شارعٍ وحَوانيتَ لِلْوَرَقْ
سُنَّةُ المُبْدِعينَ في كُلِّ آنٍ
وَمكانٍ ما بَدَّلَتْ تبديلا
يَنْسُجُونَ الغُبارَ تاجاً على الدهـرِ
وظِلاً للقادِمين ظليلا
سُنَّةُ المُبْدِعين.. نَأْخُذُ ما أَعْطَوا
ويَنْسَى المُقَلّدون الأَصيلا
نتَمَطَّى، نَشُدُّ قاماتِنا الكَسْلَى
وَنبْقَى في السَّفْحِ شيئاً ضئيلا
أَنْتَ أَقْوى مُهَشَّماً في فَمِ الداءِ
وأعتَى مُهَدَّماً مشلولا
الجاحظ: 'يبتسم كأنما يريد أن يغير الحديث
بُخَلائي في عَصرِكُمْ كيفَ أمْسَوْا
الشاعر: 'بعد لحظة صمت
ضَخُموا جُثَّةً، وزادوا ثَراءَ
وَلَغتْ في دمِ الملايينِ أَيديهمْ
فما يَحْصدُونَ إلا الدماءَ
مَلَكُوا الأَرضَ غاضِبينَ وكانُوا
ثُلّةً تُشْبِعُونَها اسْتِهْزاءَ
الجاحظ: مُفْزِعٌ ما تقولُ
كيفَ سَكَتُّم؟
الشاعر: ما سَكَتْنا
الجاحظ: أتَرْهَبونَ اللقاءَ؟
الشاعر: بَعْضُنا آثَرَ السلامةَ والصمْتَ؟
الجاحظ: وبَعْضٌ؟
الشاعر: تَكَلَّموا شُهَداءَ
الصِّراعُ العنيدُ.. في كُلِّ ركْنٍ
ساحةٌ فُجَِرَتْ، وصُبحٌ أَضاءَ
عَرَفَتْ لُعْبةَ السلاحِ الملايينُ
وثارَتْ.. لو تَسْمعُ الأنباءَ
الجاحظ: عَجَبٌ ما أَرى.. تَبدَّلتِ الدنيا
الشاعر: ولَبِّى فيها سِوانا النداءَ