صلاح عبد الصبور

1931-1981 / مصر

مرثية رجل عظيم - Poem by ص

كان يريد أن يرى النظام في الفوضى
و أن يرى الجمال في النظام
و كان نادرَ الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميّتة يخاف أن يبعثها كلامُهُ
ناشرة الفودين, مرخاة الزمام
و كان في المسا يطيل صحبةَ النجوم
ليبصر الخيط الذي يلمُّها
مختبئا خلف الغيوم
ثم ينادي اللهَ قبل أن ينام
الله, هب لي المقلة التي ترى
خلف تشَتُّتِ الشكول و الصور
تغيُّر الألوان و الظلال
خلف اشتباه الوهم و المجاز و الخيال
و خلف ما تسدله الشمس على الدنيا
و ما ينسجه القمر
حقائقَ الأشياء و الأحوال
و تسألونني: أكان صاحبي؟
هل صحبة تقوم بين سيدٍ عظيم
و خادمٍ محتال؟
مرثية صديق كان يضحك كثيرا
كان صديقي
حين يجىء الليل
حتى لا يتعطَّن كالخبز المبتل
يتحول خمرا
تتلامس ضحكته الأسيانة في ضخكته الفرحانة
طينا لمَّاعاً أسود
أو بلورا
و يخشخش في صوت الضحكات المرسَل
صوت كتكسُّر قشر الجوز المثقل
كنا نتلاقى
أو بالأحرى نتوحد, كل مساء
في قاع الحانة
كالأكواخ المتقاربة المنهارة
و الريح من الشباك المترب للشباك المترب
تتسكّع بين فراغات الأشياء
يتنحَّى كلٌّ منا عن موضعه للجار الأقرب
لا عن أدب و حياء
بل خوفا أن تختل الدورة
إذ نتصادم أو نتلاقى
كلمات, أو أذرعة, أو آلاما, أو أهواء
حذرا أن نهتز و نتفتَّح
يتقارب كلٌّ منا في داخله كالأجَمِ الفارغ
فإذا مال تنحنح
كان صديقي في ساعات الليل الأولى
يتجول في بلدتهِ
كانت بلدتُه ساعات الليل الأولى
و يجمِّع من مهجته المنثورة
أو من بهجته المكسورة
ما ذاب نهارا في أسفلت الطرقات
يترشَّفُه قطرات...قطرات
حتى يمتلىء كما تمتلىء القارورة
يتعمَّمُ بالختم الطينيِّ اللمَّاع على عينيه الطيبتين
ينقش فوق نداوته المحبورة
صورةَ كون فياض بالضحكات
يتدحرج نحو الحانة
يتعثَّر في أيدينا مختارا
يهوي مسفوحا
يتأرَّج عطرا, ريحا, روحا
يجعلنا أحيانا نضحك كالخمر الصفراء
إذ ندرك أان الأشياء المبذولة, مبذولة
و الأشياء العادية, عادية
و الأشياء الملساء, مجرد أشياء ملساء
يجعلنا أحيانا نضحك, إذ يضحك كالخمر السوداء
إذ يبصر في ورق الشجر المتهاوي
موتَ البذرة
أو يتحسَّسُ بلسان الحكمة, و اللامعنى
حين يمصُّ ثنايا امرأة في قُبلتها الأولى
جدرانَ الجمجمة النخِرة
كنا, و صديقي, في آخر ساعات الليل
نتحول عاصفة مخمورة
تتخدد فوق ملامحنا
تجعلنا نهتزُّ و نتفتَّح
تجعلنا نتكسَّر
حتى نبدو كتلا متشابهة, متكررة, متآلفةً
من إنسان فرد متكثِّر
مات صديقي أمس
إذ جاء إلى الحانة, لم يُبصر منا أحدا
أقعى في مقعدهِ مختوما بالبهجة
حتى انتصف الليل
لم يُبصر منا أحدا
سالت من ساقيهِ البهجة
و ارتفعت حكمته حتى مسَّت قلبَه
فتسمَّم بالحكمة
غاب الندماء, فلم يقدر أن يتحول خمرا
و تفتَّت مثل رغيف الخبز
126 Total read