صالح جودت

1912-1976 / القاهرة

ماتت الشجرة - Poem by

واحسرتاهُ، ماتتِ الشجرهْ
وتساقطتْ في الظلّ مُحتضَره
أهديتِها لي بعد أنْ عبرتْ
ما بيننا أُحدوثةٌ عَطِره
عن قطّة بيضاءَ ناعمةٍ
عاشتْ بغاب كلُّه نَمِره
سُكّانُه ازدحمتْ مطامعُهم
فيها، وما كانوا بها بَرَره
لكنّها بجميل حِكمتِها
خرجتْ على الأطماع مُنتصره
وسمعتُ من شفتيكِ قصّتَها
والمُزن من عينيكِ مُنحدره
وفهمتُ ما في الرمز من سببٍ
إنَّ الرموز تُعَرِّف النَّكِره
ولمستُ كَبْتاً صامتاً عَرِماً
يرتجّ تحت نعومةِ البشرهْ
وعواطفاً عذراءَ حالمةً
وأنوثةً شمّاءَ مُدَّخَرهْ
وجرى بنا قَصَصٌ إلى قصصٍ
ومضى الحديثُ يكرّ كالبَكَره
حتى وقفنا عند مُفترَقٍ
أطرقتِ فيه حييّةً خَفِره
أُلقي السؤالَ إليكِ في حذر
وإجابتاكِ الصمتُ والعَبَرهْ
مأساتُنا في العيش واحدةٌ
يا قطّتي، يا أجملَ الهِرَره
في شرعة الغاباتِ، سيّدتي
يشقى التقاةُ ويسعد الفَجَرهْ
وهممتِ واقفةً، مُخَلِّفةً
قلباً يُواجه في الهوى قَدَره
وأردتُ أستبقيكِ من وَلَهي
فوددتِ، واستأذنتِ مُعتذره
ومددتِ نحو فمي يداً ظمئت
لحلاوة القبلاتِ مُنتظره
فلثمتُها، ولو اتّقى خجلي
ضعفي إليكِ، لثمتُها عَشَره
أهديتِ لي من بعدها الشجرهْ
فينانةً مُخْضلَّةً خَضِره
وقبلتُها وأنا أحسُّ بما
في لُبِّها من لُعبة خطره
وهمستِ لي: أَحسنْ رعايتَها
وتَولَّها بأنامل حذره
واسهرْ عليها، فَهْيَ غانيةٌ
من عاشقات الظلّ في الحُجُره
واللهُ يشهد، كم نزلتُ على
همسِ الجمال وكلِّ ما أمره
ونفضتُ عنها التُربَ مُنتثراً
وثنيتُ عنها الريحَ مُعتكره
وذببتُ عنها الطيرَ عابثةً
ورددتُ عنها الشمسَ مُستعِره
إلا فَراشاتٍ مُلَوَّنةً
هفهافةً ورديّةَ الوبره
حامتْ عليها تنثني طَرَباً
وتراقصتْ نشوانةً سَكِره
وتخايلتْ باللون حاليةً
وتحايلتْ بالضعف مُؤتزِره
فنسيتُ من وَلَهي برونقها
أنَّ الفَراشة أصلُها حَشَره
راحتْ تدغدغ في رقائقها
وتمسّها في شِرَّة وشَرَه
وتمصّ ماءَ الجذع واغلةً
وتميل نحو الجذر مُعتصره
وأنا لجهلي، لا أُحسّ بما
يجني الفَراشُ فأتّقي خطره
كم من نفوس ترتدي كذبا
ثوبَ الضعيفةِ وهي مُقتدره
أكلتْ نضارتَها، فما تركتْ
إلا قشوراً هشَّةً نَخِره
واحسرتاه، ماتتِ الشجره
وتساقطتْ أوراقُها النضره
من يومها، ما جاءني نبأٌ
عن قطّتي والغاب والنَّمِره
الفألُ، ويحَ الفألِ، يُغرقني
بهواجس مُسْوَدَّةٍ عَكِره
تُوحي بأنَّ مدى حكايتِها
أكذوبةٌ في الحبّ مُبتكرَه
وتقول لي: تَخِذتْكَ أُلهيةً
بشُجيرة كتمائم السَّحَره
ماتتْ، وكانتْ غيرَ مُثمرة
واهاً لغرس ما له ثمره
وتُضيف: أَقْصِرْ فَهْيَ ناسيةٌ
هل قطّةٌ للعهد مُدَّكره؟
هي قطّة، كبنات جِلدتها
وقلوبُهنَّ ثعالبٌ مَكِره
تقسو عليكِ هواجسي، وأنا
أحيا بنفس نصفِ مُنشطره
تقسو عليكِ، فهل أُصدِّقها؟
أم أنَّها كذّابةٌ أَشِره
سيقول عنّا الناسُ في غدنا
بقي الأسيرُ، وراح مَنْ أسره
فأقول: ضاعتْ خبرتي بدداً
وأَضلُّ أهلِ الحبّ من خَبِره
فيمَ انتظاري وَهْمَ عودتها؟
مات الهوى.. مذ ماتتِ الشجرهْ
122 Total read