سعاد الصباح

1948 / الكويت

تحت المطر الرمادي - Poem by سعاد

على هذه الكُرَةِ الأرضية المُهتزّهْ
أنت نُقْطَةُ ارْتِكازي
وتحت هذا المَطَر الكبريتيِّ الأسودْ
وفي هذه المُدُنِ التي لا تقرأُ... ولا تكتبْ
أنت ثقافتي

الوطنُ يَتفتَّتُ تحت أقدامي
كزجاجٍ مكسُورْ
والتاريخُ عَرَبةٌ مات سائقُها
وذاكرتي ملأى بعشرات الثُقُوبْ
فلا الشوارعُ لها ذاتُ الأسماءْ
ولا صناديقُ البريد احتفظتْ بلونها الأحمرْ
ولا الحمائمُ تَستوطن ذات العناوينْ

لم أعُدْ قادرةً على الحُبِّ... ولا على الكراهيَهْ
ولا على الصَمْتِ, ولا على الصُرَاخْ
ولا على النِسْيان, ولا على التَذَكُّرْ
لم أعُدْ قادرةً على مُمَارسة أُنوثتي
فأشواقي ذهبتْ في إجازةٍ طويلَهْ
وقلبي... عُلْبَةُ سردينٍ
انتهت مُدَّةُ استعمالها
أحاول أن أرسُمَ بحراً... قزحيَّ الألوانْ
فأفْشَلْ
وأحاولُ أن أكتشفَ جزيرةً
لا تُشْنَقُ أشجارُها بتُهْمةِ العَمالهْ
ولا تُعتقلُ فراشَاتُها بتُهمَة كتابة الشِعْر
فأفْشَلْ
وأحاول أن أرسُمَ خيولاً
تركضُ في براري الحريّهْ
فأفْشَلْ
وأحاولُ أن أرسمَ مَرْكَباً
يأخُذُني معك إلى آخر الدنيا
فأفْشَلْ...
وأحاول أن أخترعَ وطناً
لا يجلدُني خمسين جَلْدةً... لأنني أحبُّك
فأفْشَلْ

أحاولُ, يا صديقي
أن أكونَ امرأةً
بكل المقاييس, والمواصفات
فلا أجدُ محكمةً تصغي إلى أقوالي
ولا قاضِياً يقبَلُ شَهَادتي

ماذا أفعلُ في مقاهي العالم وحدي
أمْضَغُ جريدتي
أمْضَغُ فجيعتي
أمْضَعُ خيطانَ ذاكرتي
ماذا أفعل بالفناجينِ التي تأتي... وتَروُحْ
وبالحُزْنِ الذي يأتي... ولا يروُحْ
وبالضَجَرِ الذي يطلعُ كلّ رُبْعِ ساعهْ
حيناً من ميناءِ ساعتي
وحيناً من دفترِ عناويني
وحيناً من حقيبةِ يدي

ماذا أفعلُ بتُراثِكَ العاطفيّ
المَزْرُوعِ في دمي كأشجارِ الياسمين
ماذا أفعلُ بصوتِكَ الذي ينقُرُ كالديكِ
وجهَ شراشفي
ماذا أفعلُ برائحتِكَ
التي تسبح كأسماك القِرْشِ في مياه ذاكرتي
ماذا أفعلُ بَبَصماتِ ذوقِكَ... على أثاث غرفتي
وألوان ثيابي
وتفاصيلِ حياتي
ماذا أفعلُ بفصيلةِ دمي
يا أيُّها المسافرُ ليلاً ونهاراً
في كُريَّاتِ دمي

كيفَ أسْتحضركَ
يا صديق الأزمنة الوَرْديّهْ
ووجهي مُغَطَّى بالفَحْم
وشعوري مُغَطَّى بالفحْم
ليست فلسطين وحدَها هي التي تحترقْ
ولكنَّ الشوفينيَّهْ
والساديّهْ
والغوغائيّة السياسيَّهْ
وعشرات الأقنعةِ, والملابس التنكريَّهْ
تحترق أيضاً
وليست الطيورُ, والأسماكُ وحدَها
هي التي تختنقْ
ولكنَّ الإنسانَ العربيَّ هو الذي يختنقْ
داخل (الهولوكوستِ) الكبيرْ

يا أيها الصديق الذي أحتاجُ الى ذراعَيْهِ في وقت ضَعْفي
وإلى ثباته في وقت انهياري
كل ما حولي عروضُ مسرحيَّهْ
والأبطالُ الذين طالما صفَّقتُ لهم
لم يكونوا أكثر من ظاهرةٍ صَوْتيَّهْ
ونُمُورٍ من وَرَقْ

يا سيِّدي يا الذي دوماً يعيدُ ترتيبَ أيَّامي
وتشكيلَ أنوثتي
أريد أن أتكئ على حنان كَلِماتِكْ
حتى لا أبقى في العَرَاءْ
وأريدُ أن أدخلَ في شرايينِ يَدَيكْ
حتى لا أظلَّ في المنفى
109 Total read