نزار قباني

1923-1998

فاطمة في ساحة الكونكورد - Poem by نزار قبان

يُمْطِرُ عليَّ كُحْلُكِ الحجازيّْ
(وأنا في وَسَط ساحة (الكونكوردْ
فأَرْتَبكْ
وترتبكُ معي باريسْ
تسقطُ حكومةٌ .. وتأتي حكومَهْ
وتطيرُ الجرائدُ الفرنسيّةُ من أكْشَاكِها
وتطيرُ الشراشفُ من فوق طاولات المقاهي
وتطلبُ العصافيرُ اللجوءَ السياسيْ
إلى عَيْنَيْكِ العَربيَّتيْنْ
أيَّتها العربيَّةُ الداخلةُ كالخنجر في صَبَاحات باريسْ
يا مَنْ ترتشفينَ القهوةَ بالحليبْ
وترتشفين معها كُرَيَّاتي الحمراءَ والبيضاءْ
ما كانَ في حسابي أن أُلاقيكِ في محطّة الحزنْ
وأن تلتقطيني بأهداب حنانِكْ
وأنا في ذَرْوَة البرد، والخَوْف، والإنْكِسَارْ
لكنَّ باريسَ قادرةٌ على كلِّ شيءْ
ونبيذُ بوردو الأحمر، هو الذي سَيُلغي الفُروقْ
بين صقيع أوروبا..
وشُموس العالم الثالثْ
بين حيائكِ الجميلْ
وبين جُنُوني
(أيَّتها العربيَّةُ التي تتكسَّرُ على أرصفة (المونْمَارترْ
فتافيتَ ياقُوتٍ
وغابةَ سُيوفْ
يا مَنْ يتصالحُ في عَيْنَيْها الضوءُ .. والعُتْمَهْ
والماءُ .. والحرائقْ
ما كان في حسابي
(وأنا أتمشَّى بين (الفاندوم) .. و( المادلينْ
أن أدخلَ في جَدَليَّةِ اللون الأسودْ
وإشكَاليّة العُيُونِ الواسعَهْ
كخواتمِ الفضَّهْ
ما كانَ في حسابي..
أن أدخلَ في تفاصيل التاريخ العَرَبيّْ
فلقد تخانقتُ مع تاريخي
وجئتُ إلى باريسَ .. لأُلغيَ ذاكرتي
ولكنْ .. ما أن نزلتُ من الطائرَهْ
حتى نَزَلَتْ ذاكرتي معي
ونَزَلَ شَعْرُكِ الغَجَريُّ معي
ونزلتْ أثوابُكِ .. ومعاطفُكِ
وأدواتُ زينتكِ معي
لتسدَّ مداخلَ الطُرُقاتْ
(من مطار (شارل دوغول
إلى كنيسة نوتردامْ
(يا فاطمةَ ساحة (الكونكوردْ
يا فاطمةَ الفاطِماتْ
أيُّها السيفُ المرصَّعُ بأجمل الآياتْ
أيُّها اللغةُ التي ألغَتْ جميعَ اللغَاتْ
أُرحِّبُ بكِ في باريسْ
وأرجو لكِ قامةً سعيدَهْ
فوق أعشاب صدري
يا ذاتَ الشفتينِ المُمْتَلِئتيْنِ كحبَّتَيْ فاكِهَهْ
كم هُوَ استفزازيٌّ نوعُ العطر الذي تضعينَهْ
وكم هُوَ رائعٌ إفطارُ الصباح معكِ
وأنتِ تنقرينَ قطعةَ (الكرواسَانْ) كعصفورْ
وتنقرينَ فمي كعصفورْ
أيَّتُها السنجابةُ الآسيويَّهْ
التي تنطُّ من أعلى (برج إيفل) إلى صدري..
ولا تخشى الدُوارْ
(وتستحمُّ بنوافير (قصر فرساي
ولا تخشى الغَرَقْ
(وتنامُ عاريةً على أعشاب حديقة (التويلري
ولا تخشى الفضيحَهْ
أيَّتُها العربيّةُ التي ينقِّطُ العَسَلُ الأسودُ من عينيْها
نُقْطَةً .. نُقْطَهْ
ويُنقِّطُ الشِعْرُ من شَفَتها السُفْلى
قصيدةً .. قصيدَه
ويرنُّ حَلَقُها الطويل صباحَ يوم الأَحَدْ
كناقُوسِ كنيسَهْ
ما كانَ في حسابي
أن أمرَّ معكِ ذاتَ يومٍ تحتَ قَوْس النصرْ
لنضعَ وردةً على قبر العاشق المجهولْ
ولا كانَ في حسابي
أن أرى صورتَكِ في متحف اللُوفر
مع أعمال رينوارْ
وماتيسْ
وسيزانْ
وأن أرى أعمالي الشعريَّهْ
تباعُ في مكتبات الضفّةِ اليُسْرى
مع أعمال رامبو
وفيرلينْ
وجاك بريفير
صَباحَ الخير
أيّتها العصفورةُ القادمةُ من المياه الدافئَهْ
لتغتسلَ بأمطار باريسْ
وأمطار حنيني
صباحَ الخير
أيَّتُها السَمَكةُ التي تتكلَّمُ اللغةَ العربيَّهْ
وتتهجّى كَلِماتِ الحُبِّ باللغةِ الفَرَنسيَّهْ
وتتهجَّاني بكُلِّ لُغَاتِ الأُنوثَهْ
كُلَّما سافرتُ إلى باريسَ دونَ حَجْزٍ
تصيرينَ فُنْدُقي
صَباحَ الخير .. يا بُسْتَانَ الزَعْفَرانْ
صباحَ الخير .. يا سُجَّادةَ الكاشانْ
صباحَ الخير على أصابعكِ النائمة بين أصابعي
وعلى معطف المطر الذي كنتِ تلبسينَه معي
وعلى جرائد الصباح التي كنتِ تتصفَحينها معي
صباحَ الخير
على الكافيتريات التي ثَرثَرْنا فيها
وعلى البُوتيكات التي رافقتُكِ إليها
وعلى المرايا التي دخلناها معاً
ثم سافرتِ
وتركتِني حتى الآن .. مَرْسُوماً عليها
186 Total read