نيسانُ، أنتَ لعين الدهر إنسانُ
يا ليت كلَّ ليالي الدهر نيسانُ
ما الطيرُ؟ ما الزهرُ؟ إني لا أخصُّمها
بفتنةٍ؛ كلُّ شيء فيك فتَّان
الصخرُ يبدو لعينِي فيك منتشِيًا
أُحسُّ فيه حياةُ وهْوُ صفْوان
ينساب دفْؤُك في الأبدان عافيةً
لا تشتكي السُّقْمَ في نيسانَ أبدان
وللربيع خمورٌ؛ لا كرومَ لها
ولا كئوسٌ، ولا دَنٌّ، ولا حان
قالوا: الربيع، فقلت: العدل طابَعُه
لا في النهار، ولا في الليل طغْيان
تعادل الليلُ فيه والنهارُ معًا
كأنما هو للأيام ميزان
كم كَهْرب الجوَّ فصلٌ غيرُ معتدلٍ
تعاورَتْه زياداتٌ ونقصان!
الحسن في سنَة من نومه، فإِذا
حلَّ الربيع فإِنَّ الحسن يقظان
كأنما لم يكن شمسٌ، ولا قمرٌ
قبل الربيع، ولا سرْوٌ، ولا بان
الكون في نشوة من يوم مقْدَمه
فكل ما فيه يمشي وهْو وَسْنان
طال الشتاءُ؛ فلا طيرٌ، ولا شجرٌ
لا الطيرُ طيرٌ، ولا الأغصَان أغصان
قم، نبه الطير ينظرْ عِزَّ دولته
عرشُ الربيع عليه الطيرُ سلطان
هذي منابرُك العليا مهيأةٌ
يا طيرُ، فاصْدَحْ؛ فكل الكون آذان
أنت الملحِّن والمُنشي، وأنت لنا
رِقٌّ، وأنت مزاميرٌ وعيدان
الطير يصدح، والغدران هامسةٌ
المطربان هما: طيرٌ، وغدران
قم ننظرُ الماء -ماء النهر- في دَعَة
والبطُّ يسبح فيه وُهْو جذلان
يخط فيه خطوطًا لا بقاء لها
كأنها حادثٌ يمحوه نسيان
من كل ما خرة للماء، عابرةٍ
كأنها وحدها فُلكٌ، وربان
الجيد ساريةٌ، في الجوِ عاليةٌ
والرِّجلُ في الماء مجْدافٌ، وسكان
أسطول سلم تقر العينَ رؤيتهُ
لم تندلع منه نـحوَ الشطِّ نيران
مَرَّ النسيم على سطح الغدير ضُحًى
وماؤُه مُطْبقُ الجفنين نعسان
فيم التجعُّد إذْ مرَّ النسيم به؟
سلوا الغدير، سلوه: أَهْو غضبان؟
إن النسيم رسول الزهر حمَّله
سرَّ العبير، وللأسرار كتمان
لكن باح بالسر الجميل، وقد
يطيب للسر -سرِّ الدهر- إعلان
كم للنسيم مع الشعر الطويل أو الـ
ثَّوْب القصير دُعابات لَهَا شان
وكم له بغصون الدوح عربدةٌ
كأنه بغصون الدَّوْح ولهان
وكم ترنَّح سكرانًا بهبَّته
كما ترنح بالصهباء سكران
وكم رسالةِ حبٍ جاءَ يحملها
كالبرق وهْوَ حثيثُ الخَطْو عجلان
رسالة حلوة الأنغام؛ قَرَّبها
قلبُ الحبيب قرارًا وهْوَ حَيران
قالوا: عليل، فقلنا: هل إليه سَرَى
من المحبين أنَّاتٌ وأشجان؟
عرش الطبيعة قد صُفَّتْ أرائكُهُ
إن الربيع لهذا العرش سلطان
عرش، سرادقهُ في كل ناحيةِ
يقام، يشهده حُورٌ وولدان
ليست معازفه رقـًّا، ولا قَصَبًا
لكن معازفه طيرٌ، وأفنان
قد نُسِّقَتْ فيه أزهارُ الربا أُصُصًا:
ورد، وآسٌ، ونَسرينٌ، وريحان
الأفْق بالنجم -لا بالشمع- مزدهرٌ
والأرض بالبُسُط الخضراءِ تزدان
أما ترى الأرضَ وشَّاها الربيع كما
وشى الشبابَ -ثياب العُرس- فنان؟
نولٌ يحوك على وجه الثرى حُلَلاً
شتى؛ لهن -كما للطيف- ألوان
ولا خيوط لها غير النبات، وما
لها سوى الماء أصباغ، وأدهان
إن الربيعَ كتابُ الحبِّ نقرؤُهُ
الحبُّ حاشية فيه، وعنوان
فكلُّ عينِ به كالسيف فاتكةٌ
وكل قَدّ به كالرمح طعَّان
وكل خدٍ به تفاحةٌ نضجت
وكل نَهْد حواه الصدرُ رمّان
رجعت فيه إلى الدنيا، أسائلها
هل غيرت أهلها أم هُمْ كما كانوا؟
ما أخطأت مقلةٌ فيه له هدفًا
إن صوَّبتْ سهمها، والسهمُ حرنان
صيدُ القلوب -كصيد الطير- معركةٌ
لها: سهام، وأقواس، وأزمان
بين الظباء وأُسْد الغاب دائرةٌ
سلاحها: أعْيُن وسْنَي، وأجفان
كم في الربيع لها فوق الشواطئِ، أو
تحت الظلال -ظلالِ الدَّوْح- ميدان
تبسم البحر من بعد العبوس؛ فهل
للبحر -أيضًا- مسرَّات، وأحزان؟
يا سادنَ البحرِ، قم، وافتح شواطئه
بالباب للبحر زُوَّار، وضيفَان
مرَّتْ عليه شهور، وهْوَ في سِنَة
لا الموج موجٌ، ولا الشطآنُ شطآن
مَهْدٌ به الرَّمل، والكثبانُ ناعمةٌ
أغلى ثمارِ له رمل، وكثبان
سِرْبُ الغواني على الأبواب منتظرٌ
تكشَّفَتْ منه أعْضَادٌ، وسيقان
من كل ساحرة العينين، ضامرةٍ
الخَصْرُ في ظَمَإٍ، والرِّدفُ ربَّان
إذا سبحن على أمواجه، فُتِحَتْ
للسابحات من الأمواج أحضان
يبدون في شَطِّه أو فوق لُجَّتهِ
كأنما هُنُّ درٌّ، وهْو دِهْقان
أيسكن الدرُّ والمَرجان شاطئَه
أم في قراراته در ومرجان؟
لا أرهب البحرَ والغيد الحسان بهِ
فإنَّ غضبتَه عَطْفٌ وتحنان
ولا أهاب هدير البحر إن سبحت
فيه المهَا، فَهْوَ تطْريبٌ وألحان
عجبت للبحر؛ قد فاض العُبَابُ به
لكنه لِرُضَابِ الغيد ظمآن
سبحان من صوَّر الدنيا فأبدعها
فقل لرَبِّكَ -رب العرش-: سبحان
آيات ربك تَتْرى في الوجود؛ فهل
للمرء عينٌ؟ وهل للمرءِ وِجْدان؟
كل البقاع محاريبٌ له صُنِعَت
وكل ما تسمع الآذان قرآن
في كل ظاهرة تبدو يَلوُحُ لنا
على جلالة ربِّ العرش برهان
كم ذرةٍ في فضاء الله سابحة
فيها: عوالمُ لا تُحْصَى، وأكوان
فيم الصعود إلى الأفلاك نكشفها
والشمس تضحك والشِّعْرى وكيوان؟
إن ابنَ آدمَ عن سرِّ الوجود، وعن
سر الحياة، وسر الموت غفلان
ضلَّ ابنُ آدمَ إذ رام الوصولَ إلى
نهاية الكون! والإنسان إنسان