من وحــي البحـــر
يالجَمَال المنظر الخلاَّب
عند التقاءَ الأُفقِ بالغياب
وَفوقها مواكبُ السَّحاب
تسبح في الفضاءِ كالقباب
والشمس تارةً بلا نِقَاب
وتارة تُسْرفُ في الحِجاب
خلفَ ظلام الغَيم والضباب
والبحر كاسٍ، أزرقُ الجِلْبَاب
زرقةَ عَيْنِ الغادةِ الكَعَاب
من لي بِمِجْهَرٍ وإصْطرْلاَب؟
حتى أرى الشمس على اقْتراب
إذا مال قُرصْها إلى الغِيَاب
واصطبغَتْ بحُمْرَةُ العِتَاب
وانطفأتْ جمْرَةُ الالتهاب
في الماء؛ فَهْي كالسِّراج الخابي
وصاح صوت الدهرِ كالغراب
-في نَغَم خَال من الإطْراب-
صفحةٌ انطَوَتْ من الكتاب
يا بحرُ، أنت ملتَقَّى الأحباب
وباعثُ النَّشْوة في الأعصاب
ومُبْدلُ الأُنس بالاكتِئَاب
وطاعنُ الصيف بلا حِرَاب
إذا عَدَا كالضَّيْغَم الوثَّاب
مُهَدِّدًا بمِخْلَبٍ وناب
تمُّوز عاش منك في إِرهاب
آرَادُهُ حانية الرقاب
قهرته برقة الحَبَاب
والنسمات الحلوة الرِّطاب
فعاد مرتدًّا على الأعْقاب
للين حد ليس للقرضاب
ما فيك شيء ليس بالجَذَّاب
حتى اصطدامُ موجك الصَّخَّاب
بالصُّمِّ من صخورك الصِّلاَب
يحكي لنا زئيرَ أُسْدِ غاب
مُهْتَاجةٍ، مُثارةٍ، غضَاب
كم موجةٍ تُومِض كالشِّهاب
أو كحُسَام سُلَّ من قِراب
بيضاءَ مثلِ دِرَّة الحِلاَّب
نِثَارُها من لؤُلؤ مُذَاب
موجُك -مثلُ الدهر- في انقلاب
بَيْنا نراه ليِّن الجَنَاب
إذا به أرفعُ من هِضاب
عَزَّت على الأَجْدلِ والعُقَاب
إن كنتَ غيرَ سائغِ الشَّراب
فمنك ماءُ الأنْهُر العِذَاب
إن تَفْخَرِ الأَنْهارُ بالأَنسَاب
فالنيل من أبنْائك الأَنجَاب
ملءُ الثُّغُور أنت والأكواب
بكلِّ عذب بَارِدٍ مُنْسَاب
كالشهد في الأفواه والرُّضَاب
ماؤُك سِرُّ النَّسْل والإخْصَاب
وواضعُ البذور في الأَصْلاب
وأنت سرُّ خُضرة الروابي
وثَمَر النخيل والأعْنَاب
أنتَ عَمَرْتَ الأرضَ من يَبَاب
لولاك ما حَبَا عليها حَابِي
أو خلقَ الإنسانُ من تُرَاب
كأنما أنت هنا أعرابي
خيامُه أرْبَتْ على الحِسَاب
منصوبةٌ، مشدودةُ الأطْنَاب
عالِيَةٌ، مفتوحةُ الأبْواب
ريُّ الظماء، مَطْعَمُ السِّغاب
تجمع بين: الصِّيد، والأَوشاب
بين رؤوس الناس، والأذناب
وَرَبْرَب الغِزْلان، والذئاب
ما نَمَّ نابحٌ من الكلاَب
أو حاجب فظُّ من الحُجَّاب
وأنت جالسٌ على الأَعْتاب
من الرمال فارشٌ زَرابي
تَستقبلُ الوفودَ بالترحاب
طَلْق المحيا واسع الرحاب
ضخم الجفان، فاهق الجوابي
والغِيدُ أسْرَابٌ إلى أسراب
يَنْبُتْن في شَطِّك كالأعشاب
إليك يفرغن من المخَابي
يَكَدْن يَبْدُون بلا ثياب
لَسنَ بحاجة إلى اغتصاب
يا بحر، أين شُرْطَةُ الآداب؟
غيدُك قد أفْقَدْنَني صَوَابي
أهكذا يلعبْن بالأَلْباب؟
هنا جمالٌ ليس بالكَذَّاب
والبحر لا يجُورُ أو يُحَابي
يذيب كُحْل العين والأهداب
وما على الأَوْجُه منْ خضَاب
أَضْوَعُ من مِسْكٍ ومن مَلاَب
ليُعرَف الزيفُ من اللباب
مَلابِسُ البحر بلا أرْواب
حول الجسوم الغَضَّة والإِهَاب،
أخطرُ من نار على أحْطَاب
كم ذات جسم للنُّهى سلاَّب
يرمُقُها الناظر في إعجاب
بكل طَرْف نَهمٍ نهَّاب
يجْرحُ مثلُ مُدْيَة القصَّاب
يا للجمال الصَّائبِ المصَاب!
الحمد لله خَلَت وطَابي
من الهوى وعُطِّلَتْ ركَابي
ما عاد لي بين الحسَان سابي
يذيقني حلاوة العقَاب
ولا يطيلُ الهوى انْتحابي
من كثرة الهجر والاجتناب
ما أنا إن صَدَّ الحبيبُ عابي
ولا ليوم الوَصْل في ارتقاب
وَكيف أغشى حَلبة التَّصَابي،
وما معي قوسي ولا نشابي؟
كيف أخوضُها بسيف نابي؟
وفرَسِي بادي الهُزَال، كابي؟
مالي وللْكَواعب الأَترَاب؟
أين مَضَيْتَ أين يا شبابي؟
قُبِّحْتَ يا أخدَعَ من سراب!
ما الحب غيرُ قَدَر غَلاَّب
وسبَب العمران الخَرَاب
عُذُوبة الحب من العَذَاب
وشَهْدُه مُخْتَلِطٌ بصاب
يا بحرُ، قد أصحبتَ من أصحابي
أكاد أشتكي إليك ما بي
كأنما تَشفى من الأوصاب
أو تَفهمُ المقصودَ من خطابي
فإِن أقلْ تَهُمَّ بالجواب
يا بحر، دقَّتُ ساعةُ الإِيَاب
وهكذا العمرُ إلى ذَهَاب
عمري لو امتدَّ إلى أعقاب
قضيتُه، وما انقضت آرابي
إن مت فادفنوا معي رغابي
يا بحر، أنت ريبة المرتاب
لكنني فيك أرى محرابي
دأبُك هذا أبَدًا، ودَابي
أغشاك للأَجر، وللثواب
غِشْيَانَ عبدٍ، خاشع، أَوَّاب
مُحَلِّق بفكره، جوَّاب
في المُلك مُلْك سيد الأَرباب
الشهْب سربٌ فيه من ذباب
والشمس عُودٌ لاحَ من ثقاب
والأرض تُرسٌ دار في دولاب
وأنت قَطْرٌ سال من لُعَاب
جلَّ جلالُ الخالِق الوهَّاب
مقدَّسِ الصفات والأَلقاب
كم همسةٍ فصيحة الإعْراب
للموج تُطْرِي اللهَ في إسهاب
تشرح سرَّ الكون للطُّلاَّب
يا بحر، كم وصلْتَ من أسباب
بيني وبين الغافر التَّوَّاب
أنت لكلِّ مُلْحِدِ وصابي
إن تاه في مُفْترَق الشِّعَاب
يا خامس الأَربعة الأَقطاب