لعمرك، ما صارت رسوما بواليا
ولكن بلِينا نـحن، وَهْي كما هيا
مَغَانٍ سقيناهُنَّ ماءَ شبابنا
وأسْقَيْنَنَا نَبْعًا من العلم صافيا
وما برحت شمَّاءَ، شامخةَ الذرا
فهل ثَمَّ أشياخي بها ولدَاتِيا؟
تكاد لذكراها تذوبُ حُشاشَتي
ويطفرُ من بين الضلوع فؤاديا!
سلامٌ عليها في «مليجَ» مثابةً
حفظْتُ بها السبعَ القِصار المثانيا
سلام على طنطا، ومعهدِها الذي
نَظَمْتُ به قبل البلوغ القوافيا
سلامٌ على دار القضاء، وأهلها
وربعٍ من العِرْفان أصبح خاويا
لقد وأدوها مُنْذ خمسين حِجَّة
ومازال قلبي غائرَ الجُرْح داميا
سلام على دار العلوم، وعهدِها
وهيهات هذا العهدُ يرجع ثانيا
مغان غرفتُ العِلْمَ من غرفاتها
وأوْدَعْتُ فيها بضعةً من شبابيا
أروح إليها كلَّ يومٍ، وأغْتَدي
إلى العلم عطشانا، ومن العلم رَاويا
وهَمِّي من الدنيا: كتابي، ومِرْقَمي
خليليَّ، رُدَّا مِرْقمي، وكتابيا
إذِ العيشُ صَفْوٌ، والحياة رخِيَّة
كأَنَّا بدنيانا أَمِنَّا اللياليا
تُزَيِّن دنيانا أمانٍ عريضةٌ
فما أجملَ الدنيا، وأَحْلى الأمانيا
وإذْ تتبارى في القريض ونَظْمِهِ
ونفتَنُّ فيه بنْيَةً، ومعانيا
نُدَبِّجُه طوْرًا رصينًا مهذَّبًا
وطورا دُعَابَات، وطورا أهَاجِيا
وننظمه أُنشودةً وطنيةً
تحمِّس رِعْدِيدًا، وتُوقِظُ غافيا
وننشده للمخلصين مدائحًا
وللزُّعماء الراحلين مَرَاثِيا
وكان لنا -إذْ نـحن عُزْلٌ- ذخيرةً
نصُدُّ بها الجيشَ الذي جاء غازيا
ونارا على المحتلِّ يَصْلَى أُوارَها
وسَيْفًا على رأسِ الخَوَارجِ ماضيا
زمانٌ تقضَّى في مِرَاحٍ، وفي دَدٍ
فهل كنتُ فيه ناعم البال راضيا؟
لقد كنت أشكو فيه من غير علَّة
فأصبحت من علاَّتِي اليومَ شاكيا
تشَكَّى زهير من ثمانين حِجَّةً
وإني لأشكو مذْ بلغتُ ثَمَانِيَا
وأقسم، لوْ أني رُدِدْتُ إلى الصبا
لما كان نوْحي فيه إلاَّ أغانيا
بكينا بِدَمْعِ العين أزْمِنَةً مَضَت
وكانت مزاياها لدينا مَسَاوِيا
وما طيبَ عيشٌ ليس يَشْعُرُ أهلُهُ
بلذَّتِه إلا إذا صار ماضيا؟
أرى صُوَرَ الماضي تفزِّعني إذا
هَجَعْتُ، وتغزوني إذا كنتُ صاحيا
فياليتني أحيا ليَوْمِيَ وحدَهُ
وليت لأمسي من حياتيَ مَاحِيا
وما سرني من أمس عند ادّكاره
أدَرَّ لدمع العين ممِا شجانيا
فَلاَ تَقْلبَا لي من حياتيَ صفحَةٌ
وإن كُتبتْ بالمِسْكِ أذْفَرَ ذاكيا
ويتعب في دنياه من دقَّ حسُّهُ
وأُوتِي ذِهْنًا للحوادث واعيا
وأين لِداتي اليومَ؟ هل رَمَتِ النَّوى
بهم في أقاصي المَشْرِقَيْن المراميا؟
وهل أصبحوا في كل شرقٍ ومغربٍ
يُعانُون ما أصبحتُ منه مُعَانِيا؟
يعانون فَوْدًا أبيضَ الشَّعر، ناصعًا
به صار وجهُ العيش أسْحَمَ دَاجيِا؟
سلامٌ على من عاش منْهُمْ، ورَحْمَةٌ
على من غدا في ظلمة القبر ثَاويا
على كلِّ قبرٍ من قُبور أحبَّتي
سَحَابٌ من الغُفْران ينسابُ هَاميا
خليليَّ، مَنْ لي كل يوم بوقفة
على كل قبر حَاسِرَ الرأس جَاثِيا؟
وهل في وقوفي ما يخفِّفُ لَوْعَتي
عليهم؟ وهل دمعي يُهَوِّنُ ما بيا؟
وكيف بقائي بعد صحبي وبعدما
تجلَّل رأسي الشيبَ؟ وكيف بقائيا؟
وكيف بقائي وانكفائي على العَصَا
يذكِّرنِي بالموت إن كنت ناسيا؟
مَشَيْتُ على الأَرض الهوَينَا، كأنما
أبي لي وَقاري أن يَرانِيَ عاديا
وما بي لعمري من وقار؛ وإنما
هو العجز لولاه سَبَقت خياليا
وعزَّزتُ ساقيَّ اللتين تراخَتَا
بثالثة لم تـجْرِ فيها دمائيا
إذا ما اشتكت لم تشكُ حُمَّى جَوَارحي
ولم أُعطها مَصْلاً من الدَّاءِ واقيا
وأين صنيعُ الله من فرع دَوْحَةٍ
حَوَتْهُ يَمِيني فاقدَ الحِسِّ ذوايا؟
ألاَ رُبَّ يومٍ فيه قد كان وارفًا
وكان دقيق الحس، أخضر نامِيا
خليليَّ، أعيا الخطوْ ساقي، فَحَطِّما
عصاي، ورُدَّا لِي صلابةَ ساقِيا
سَلاَ مَنْ إلى الأفلاك حَثُّوا رحَالهم
ألم يجدوا من علَّةِ الساق شافيا؟
ألم يجدوا للشَّيْبِ مصلاً يُزيلُه؟
ألم يجدوا منه طَبيبًا مُدَاويا؟
إذا عجزوا في الأرض عن كشف ضُرِّها
ففيم يجوبون النجوم الدَّرَارِيا؟
وكيف ادعاءُ المرءِ للعلم والحِجَا
وشرُّ حياة المرء مازال خافيا؟
لعمرك، ما أضفى عليَّ سعادةً
يَسَارِي، ولا أزْرَى افتقاري بحاليا
تفرِّقنا الدنيا: يَسَارا، وفَاقَةً
ونقتسم اللَّذَّاتِ فيها سواسيا
وَرُبَّ أميرٍ وَدَّ لو كان سُوقَةً
وذي جدَة قد بات يَغْبِط عافيا
ومطربة تشجي الجموعَ بصوتها
وقد حَمَلَتْ بين الضلوع مآسيا
وتحسدها بين الخُدُورِ حَرَائِرٌ
وتحسد في بعض الخدُور الجواريا
تصَفَّحْتُ أيامي فلم تَرَ مقلتي
بمُعْجَمِهَا سَطْرًا بقدريَ زوايا
فلستُ أُبالي عَادِيَ الموت بعدما
حَييتُ عيوفَ النفس، للضيْم آبيا
ترفَّعتُ عن أشياءَ ليست تَشِينُنِي
وأعلم أنِّي قد أكون مُغَاليا
وما ضرَّني أن ألْبَسَ الثَّوْبَ باليا
إذا كان من عيبٍ يُدَنِّسُ خاليا؟
إذا ملأ الحِقْدُ الصدُورَ، فإنَّني
لأحملُهُ صدرًا من الحقد صافيا
وما أنا والحقدُ الدَّفينُ أُكِنُّه
بصدري؟ وإنِّي ما عرفت الأعاديا
تسَامُحُ نفسي لم يَدَعْ لي شائِنًا
وإن زاده هذا السَّمَاحُ تماديا
ولم أَتَسَامَحُ عن صَغَار؛ وإنما
يسامح مثلي كبْرَةً وتعاليا
وأُعْرِضُ عَمَّن لا أَوَدُّ لقاءَه
ولا يبلغ الأعراض عنه التَّقَالِيا
وَزَهَّدَنِي في كِسْرَة الخبز: أنني
وَجَدتُ صِراعًا حولها، وتفانيا
ومن كلب الدنيا على كلب الغنى
تَمَنَّيْتُ لو أقضي حَيَاتيَ طاويا
خليليَّ، حَتَّام التعلل بالمنى؟
دَعَانِي؛ فإنِّي قدْ عرفت مكانيا
كفاني من الإنْجَاح ما قد أصبتُه
ومن فَشَلٍ ما كنت فيه ملاقيا
وكيف طموحي بعد أن شابَ مَفرِقي
بحسبِيَ من دنيايَ: زَادِي، ومَائِيَا
ومضمون قولي: أَسأَل الله قربة
وعفوا أرجِّيه ليوم حسابيا
عَرَفْت حياتي: بؤسَها ونَعِيمَها
فياليت شِعْري: بعدها ما ورائيا؟
ويا ليت شعري -يوم تدنو مَنِيَّتي
أيُحْسِنُ قبري، أم يُسِئُ لقائيا؟
خليليَّ، إني لا أَبَرِّئُ ساحتي
أَأَزعم أنِّي ما اقْتَرَفْت معاصيا؟
فلا تدفنا ذنبي بقبريَ، وادفنا
صلاتي مَعِي جَوْفِه، وصياميا
فإن تدفنا ذنبي معي، فلرُّبما
عفا الله عمّن كان للعَفْو راجيا
ويأسُك من عفو السماءِ خطيئةٌ
أشد من الذنب الذي كنتَ جانِيا
أَأَيئَسُ من عفو السماءِ، وربَّما
وجدت على الأرض ابن حَوَّاءَ عَافيا
لعلَّ إله العرش يَقْبَلُ توبتي
ويسمع في البيت الحرام دعائيا
أهَبْت به -إذ لُذْتُ بالرُّكن- قائلاً
حَنَانَيْك مَدْعُوًّا، ولَبَيَّك داعيا
وأسْبَلتُ عند الستر غَرْبَ مَدَامِعي
وما كان دمعي في الحوادث جاريا
وما كُنْتُ -لولا صَالِحٌ- مُتَمَتِّعًا
ولا طائِفًا بالبيت سَبْعًا، وساعيا
جَزى الله عني صالحا، وكفى به
مُثِيبًا على حُسْن الصَّنيع، مُجَازيا