محمود غنيم

1901-1972 / المنوفية

في أرض النبوة - Poem by

صوت من العالم العلويِّ ناداني
لبَّيْكَ لبَّيْكَ لا آنٍ، ولا واني
ما أعذَبَ الصَّوتَ! ما أَشجاه من نَغَمٍ
سمعتُهُ بِجَناني لا بآذاني
وكيف تسمعُهُ أُذْنٌ، ويحملهُ
موْجُ الأَثير حروفًا وهْوَ رُوحاني؟
لبَّيْتُه بفؤادٍ ملؤه وَجَلٌ
وصيِّبٍ من دموعِ العين هتَّان
كيف الوقوفُ على باب الرسولِ، وفي
يدي صحائِفُ زلاَّتي وعِصياني؟
دارَ النُّبوَّةِ، ذنبي عنك أَبْعَدَني
وحُسْنُ ظَنِّي بربِّي منكِ أدناني
لم يَدْر قَدْرَكِ مَنْ في ذات أجنحة
أَتى يزورُكِ، أَو في ذاتِ سُكَّان
هلاَّ أَتيتُكِ سيَّارًا على قدمي
أَوْطَارَ من حَرِّ شوقي بي جَناحان؟
ما غبتِ غني، وإِن لم يمتلئُ بصري
من أَهلكِ الصِّيدِ أَو من رَبْعِكِ الغاني
قد كنتُ ألقاكِ في لَوْحي، وفي كُتُبي
وفي سطور أَحاديثي، وقرآني
مازلتِ رسمًا جميلاً في مُخَيِّلتي
حتى كأَنَّا التقينا منذ أَزمان
كأنني لستُ ضيفًا عند أَهلك، بل
هم في ربوعِهمُ الفيحاءِ ضيفاني
ما طَرِبْتُ لِلَحْن ليس يذْكرُ لي
ما فيكِ من علَمٍ، أو فيكِ من بان
الله يعلم كم حركِت في خلَدي
من ذكريات، وكم هيَّجتِ أشجاني
كم في دُروُبك من درب أَصَخُتُ له
كأنه بِحديث الأَمس ناجاني
لِي من صعيدك أَفواهٌ، وأَلسنةٌ
بقدر ما فيه من رَمْل، وكُثْبَان
يا جيرةَ الحرَمَينْ الآمِنينَ، لكُم
أُهدي التحيَّة من رَوْح ورَيْحان
الله أَورثكم مجدًا يُقِرُّ بهِ
قبل الحبيب لسانُ الحاسد الشاني
والله شرَّف مغناكم، وشرَّفكم
خيرُ البقاعِ أَقلَّت خيرَ سُكَّان
ما للشرابِ وردنا ماءَ زمزمكم
بل للطهارة من رجس وأَدران
بالله، لا تُتْرعوا من مائها قدحي
بل فاغمُروا جسدي منها بطوفان
هنا رحيق، عتيقٌ، حلّ مشربه
فيه طهارةُ أرواح وأَبدان
هنا مفاتيحُ أَغلاقِ السماء، هنا
باب الوصول إلى جنَّات رضوان
هنا بني المصلحُ الأُميُّ جامعةً
على أَساسَيْنِ من: علم، وعرفان
على قواعدَ من هدْى النُّبوَّة، لا
على قواعدَ من صَخْر وصَفْوان
وكيف لا ورسولُ الله منشؤها؟
جلّ البناءُ، وجلَّ المنشئُ الباني
ما كان طلابُها إِلا شراذمَ من
رعاة إِبلٍ، ومن عباد أَوثان
ربَّى العتيقَ أبا بكر بها، وأَبا
حفص، وربّى عليًا، وابْنَ عفَّان
طلاَّبُها في ربوع العالم انتشروا
مبشِّرين بإِصلاح وعمران
وسمحة من سماء الله مُنْزَلة
ومُحْكم من كلام الله ربّاني
فيها تخرّج سُوَّاسُ البريّة من
أدنى المحيطِ إلى أَقصى خُراسان
ساسوا الشعوب بأَحكام الكتاب؛ فما
أَحسّ شعبٌ بجَوْر، أو بطغيان
سماحةٌ عُرفَ الدّينُ الحنيفُ بها
ما فرَّقَتْ بين ألوان وأديان
من كلّ مِسْعَرِ حرب يوم معركةٍ
وكلِّ نابغة فذٍّ وفنَّان
أَجلَّهم كلُّ ذي علم وفلسفة
وهَابَهم كلُّ ذي جاه وسلطان
«الله أكبر» كانت سرَّ قوتهم
على الجبابرِ من فُرْس ورومان
شاد البُداةُ حضارتٍ بها، وبها
ثَلُّوا عروشًا، وسَلُّوا دُرَّ تيجان
لا حصنُ قيصر أَغنى عنه زحفهمو
ولا احتمى منهم كسرى بإيوان
والأَمر لله، دارَ الدهر دورتهُ
فأصبح القومُ شاءً بين ذؤبان
قد جال في أَمْسِهم فكري؛ فأضحكَني
وجال في يومهم فكري؛ فأبْكاني
يا ويحَ قومي! نَسُوا الله الكبيرَ؛ فلم
يذكرْهُم اللهُ، نسيانٌ بنسيان
يا ربِّ، شعبُك يشكو ما أحاط به
من الخطوب، فأدركْ شعبَك العاني
أدْركْ بلطفك شعبًا غطَّ في وَسَن
على تُخوم عدوٍّ غيرِ وَسْنان
يا سيِّد الرُّسْل، لم أَنْشِدْك ممتدحًا
فأنت فوق مزاميري وألحاني
وما عليَّ -إذا أَنشَدْتُ- من حَرَجٍ
كمْ كنتَ تُصْغِي إلى إنشاد حسَّان
لمَّا رأَيتُ القرابينَ التي قدِمَتْ
بها الوفودُ؛ جَعلتُ الشعر قُربْاني
لو استطعتُ، نظمتُ الشعر من بصري
ونور قلبي، وبعضُ الشعر نوراني
يهونُ عنديَ إن أكسِبْ رضاك به
ما نال أحمدُ من كفِّ ابن حَمْدان
بل دوِن نظرةِ عطفٍ منك واحدةٍ
ملكُ السماء وملك الأرض في آن
إني لأَطْرُقُ بابَ المصطفى بيدٍ
بيضاءَ لم تتعوَّدْ طرقَ بيبان
وأبسطُ الكفَّ أستجدي رضاه، وما
بسطتُ كفي لذي مَنٍّ وإحسان
وأسفحُ الدمعَ سهلاً في حِماه، وكم
كفَّتْ عن الدمع يوم الروع أجفاني
لا أَكتم اللهَ ما أَسلفْتُ من زَلَلٍ
وهل يغطِّي عليه طولُ كتماني؟
إذا جوارِحيَ اللاَّتي جنَتْ شهدتْ
بما جنت، كان إقراري كنكراني
جاهدتُ، يا ربِّ، أعدائي فما وهَنت
قواي، لكن جهادُ النفس أعياني
إن عدتُ من حربها الشَّعْرَاءِ منتصرًا
حينًا، فكم عدتُ أحيانًا بخذْلان
والنفسُ أفتَكُ بالإنسان من سَبُعٍ
ضارٍ، وأرْدَى له من نابِ ثعبان
ماذا أقولُ؟ أقول الله: قدَّر لي
إن شاء أسْعدني، أو شاء أشقاني
أو أدَّعي أنَّ لي أمَّارةً أمَرتْ
أو أن شيطانِيَ الشِّرِّيرَ أغواني
أستغفرُ الله! ذنبي لستُ أجحدُهُ
لكنْ على الغير يُلقي التهمةَ الجاني
يا رَبِّ، إن لم تُقِلْ ذا عشرةٍ، فلِمَنْ
ما في جِنَانِكَ من حُور وولدان؟
لمن بنيْتَ جنانَ الخُلْد دانيةً
قطوفُها، ذاتَ أشجار وأفنان؟
لِذاتِكَ العصمةُ الكبرى بها انفردت
وعصمةُ الناس من وزر وبهتان
وأنت أحُنَى على العاصين أنفِسهم
من كل أمٍّ رءوم، أو أب حان
ما زاد في ملكك الأَوَّابُ خردلةً
أو ناله المذنبُ العاصي بنُقصان
يجني على نفسه الجاني، ومن وَزَعَتْ
يمينُه الخيرَ في الدنيا هو الجاني
ومن أكون بِكَوْن أنت مُبْدِعُه
أقطرة بين أمواج وشُطْآن؟
أم ذرَّةٌ في فضاءِ لا يُحِسُّ بها
لم أدر ما كُنْهُهَا في العالم الفاني؟
سبحان من يعلم الأسرار أجمعها
وسرُّه هو أعيا كلَّ إنسان
وما أبرئُ نفسي من جَهَالتِها
جَهلي، وعلْمي بجهلي كم أراحاني
يا ربِّ، إن كنتُ قد قصَّرتُ في نُسُكي
فما تسرَّبَ شَكٌّ نـحو إيماني
ما جاءني فيك شيطاني يشكِّكُني
إلا وعاد بثوب الخزي شيطاني
وكيف لا، ورسولُ الله بَيَنِّتي
وحجَّتي أنت، والقرآن برهاني؟
يا رُبَّ يوم نهاني فيه خوفُك عن
لهو، وغيريَ يلهو بابنة الحان
ورُبَّ معصيَة لم آتِها وَرَعًا
والنفسُ تأمرُني، والدينُ ينهاني
ولا أَمُنُّ على ربِّي بطاعته
إني أعوذ به من كل مَنَّان
عصيانُ ربِّكَ ذنب واحد، فإذا
يئستَ من عفوِه، فالذنب ذَنبان
لبَّيْكَ، يا رب، لا آلُوك تلبية
حتى تمنَّ على ذنبي بغُفران
سِيَّان: إن أقضِ، أو أرجعْ إلى وطني
ما دمتَ تشملُني بالعفو، سِيَّان
فإن أعُدْ عدتُ مغفورَ الذنوب، وإن
أمُتْ فحصبُ رسولِ الله جيراني
لْيس التَّشبُّتُ بالأَوطان من أربى
كُلُّ البلادِ -بلاد العرب- أوطاني
كَهْفٌ بأرض رسول الله أرْوَحُ لي
من قُبَّة ضُرِبَتْ في ظلِّ بستان
فيم القباب على الأموات نَنْصبها؟
يكفي الدفينَ بجوف الأرض شبران
الخاملون من الأحياء كم طلبوا
على حساب دفينٍ رِفْعَةَ الشان
لا تبتغوا المجدَ من تشييع مَيِّتكم
أو المغالاةَ في قبرٍ وأكفان
يا رَبِّ، قد عشتُ في دُنياي مغتربًا
ويلاه إنْ اغْترِبْ في العالم الثاني
حاشاك، يا رَبِّ، في أُخراي تَحْرمُني
يا ربِّ، حَسْبيَ في دنياي حرماني
أستغفر الله من كُفران نعمتِهِ
بل فوق ما أَسْتحقُّ اللهُ أعطاني
ألم يجدِّني أخا غيّ فأرْشدَني؟
وهائمًا غير ذي مأوىً فآواني؟
ألم يجدني أخا جهلٍ فعلَّمَني؟
وعائلاً غير ذي وجْدٍ فأغناني؟
وما البكاء على الدنيا وزخرفها؟
شاهت ولو أنها دنيا سليمان
وما أُبالي بما في الكون أجمعِه
إنْ صحَّ منه الرضا عني وأرضاني
لبيك مِلْءَ فمي، لبَّيْك ملْءَ دَمِي
لبَّيْك يا رب من قلبي ووِجداني
إليك شفَّعْتُ من تُرْجَى شفاعته
يا رب، إن خَفَّ يوم الحشر ميزاني
265 Total read