زُفَّت الدنيا إليه كَاعبَا
منذ أن سُوِّيَ طفلاً، بل جنينا
مُعْرِسٌ لم يكُ يومًا خاطبَا
أو أثارت عرْسُه فيه حنينا
رُبَما بَثَّتْهُ في يَوْمٍ هواها
بعد أن شبَّ عن الطوق الغلام
أو قَلَتْه ذات يوم، وقلاها
مَالِحُبٍّ بين قلبين دوام
لا، لَعَمْري، لم يجد طعم الحياة
مُحْتَسٍ من جامها المُترَع صابا
ما رأتْ عيناي ملدوغًا سواه
هام بالحيَّة نابًا، ولُعَابا
كم عليل الجسم، ذي طرف كَليل
يعشقُ النورَ، وإِن لم يَرَهُ
وشريدٍ في الحياة، ابنِ سبيل
إن رأَى طيفَ الرَّدى أنكرهُ
حشراتُ الأرض من ألهمها
جمعَ ما تقتات في فصل الشتاء؟
وطيورُ الجوِّ من عَلَّمها
كيف تبني عشَّها؟ حبُّ البقاءِ
طابت الزهرة لونًا، وعبيرًا
فهوى الطير إليها بالجناح
ومشى في دولة النبت سفيرا
بين جنبيها بحبَّات اللقاح
ولحفظ النوع -لا أكثرَ- قَدْ
خلع اللهُ على الأُنثى الجمالا
وبَراها في بهاءٍ وغَيَدْ
فإذا حواءُ تستهوي الرِّجالا
ولأمرٍ وأَدَ البنتَ أبوها
وأَحسَّ العطفَ نـحو الولد
وترى الهِرَّة إن ريعَ بنوها
دافعت عنهم بعزم الأسدِ
ولأمرٍ ما تفيض العين دمعًا
كُلَّما حلَّ بها ضيفٌ غريب
جَلَّ من أبدع هذا الجسمَ صُنعَا
كلُّ عضو خلفه كفُّ طبيب
وعجيبٌ أمْرُ هذا الهيكِل
وهْوَ يومًا شاربٌ كأسَ الحمَام
كيف يرميه بداءٍ معْضِلٍ
منْ حماه من تباريح السَّقَّام؟
ما أتينا هذه الدنيا اختيارا
لا، ولا منها خرجنا طائعين
مِعْصَم قُلِّدَ بالرغم سِوَارا
وعلى الرغم قَضَاهُ بعد حين
وعجيب أمرُ أحياءِ البحار
وهْيَ تغزو بسياطٍ وحِراب
أَفَتَحْتَ الماء غزْوٌ وانتصار
كالذي نعهدُه فوق التراب؟
آكلاتُ اللَّحم في جوف الصحاري
بم تقتاتُ؟ أيقضي الليث جوعا؟
اُعذْرِ الوحش إذا ما الوحشُ حارا
فهْو لم يسمَعْ بِطَه أو يَسُوعا
وإذا نـحن عذرنا الوحش عذرًا
فلعمري، أيُّ عذر للبشرْ؟
إن تحقِّقْ دولةٌ عِزًّا ونصرَا
فعلى أنقاض دُولات أُخَرْ
عالَمٌ يطلب بالموت الحياة
بعضُه يحيا على أشلاءِ بَعْض
يقفُ المرءِ على رأس سِواه
كلما ضاقَتْ به صفحةُ أرْضِ
ليس نقلُ الدمِ من شغل الطبيب
وحده ينقله كل الأَنام
كم دمٍ يجري بشريان غريب
تارةً فوضى، وطورًا في نظام
وعجبنا من تصاريف القدَرْ
وَهْوَ حَتْمٌ ليس منه مَهْرَبُ
هرَمٌ يبقى، وطفل يُحْتَضَرْ
وعَوانٌ -دون بكرٍ- تُخْطَبُ
وغنيٌّ مالُه أسعدهُ
وغَنيٌّ صار بالمال شقيَّا
وفقيرٌ فقره أفسدهُ
وفقيرٌ صار فَذًّا عبقريًّا
وبحثنا عن ملذَّات الحياة
فوجدْنَاها على غير قياسْ
ساكنُ الكوخ غريقٌ في كرَاه
ونزيلُ القصر يَجْفُوه النُّعَاسْ
وأرى لله تدبيرًا خفيًا
ونظامًا عبقريًّا في العطاء
خَلقَ الناس، فقيرًا، وغنيًّا
ومتاعُ الكلِّ في الدنيا سواء
ربما أتعبت الدنيا أجيرا
كلما فكر في رقَّة حالهْ
فإِذا ما صار في يوم أميرا
ودَّ لَوْ عاد إلى راحة بالهْ
ربما يحسد إنسانا سواهْ
حاسد لم يدر ما خلف القنَاع
يعرف الإنسان في الدنيا أساهْ
ومآسي الغير سرٌّ لا يُذَاع
وسؤال عجزت عنه الفِطنْ
هذه الأحياءُ مَنْ آباؤُها؟
قد عرفنا آدمَ الناسِ، فَمَنْ
آدمُ الطير؟ ومَنْ حواؤُها؟
هل وجدتم في السموات أناسا
يا غزاةَ الجوِّ، يا رُسْلَ الفضاء؟
أقْرِءوهم من بني الأرض سلامًا
وعِدُوهُمْ -بعد حينٍ- باللقاءِ
أَلنَا في الأفْقِ إخوان وأهلُ؟
مَالَهُمْ لا يَصِلُونَ الرَّحِمَا؟
ما لنا في الجوِّ نعلُو، ثم نعلُو
ثم لا نبصرُ فيه نَسَمَا؟
لكأني بالسموات العُلاَ
باسمات الثغر من صنع البشرْ
أبحثوا -من أين جئتم- أولا
ثم والوا البحث عن أهل القمرْ
أيها المُنْعمُ في الكون النظرْ
تَعِبَ الباحث من قبلك فيهْ
هو كالبحر، فخذ منه الحذَرْ
من يجوبُ البَحْرَ أخْلِقْ أن يتوهْ
أيها العلمُ، أملأ الدنيا اختراعًا
اِخرِقِ الأرضَ، وحلِّق في السماءِ
أنت لم تقطع من الشوطِ ذراعًا
أين لُجُّ البحر من قَطْرةِ ماءِ؟
ما احتيال العقلِ في تلك الأحاجي؟
رَبِّ، قد آتَيْتَنَي ذِهْنًا كلِيلا
كلما أمعن عقلي في اللَّجَاجِ
قلت: «أوتينا من العلم قليلا»
مَلَكوتٌ كلما فكرتُ فيه
زدتُ إيمانًا بعجزي، ويقينا
وإذا ما زاد بي شكِّي، وتيهِي
قلت: حَسْبي أن لي ربًّا، ودينا