محمود غنيم

1901-1972 / المنوفية

الركب المقدس - Poem by

أيُّ ركب دبَّ في جوْف الفلاةْ
يَقْتَفي التاريخُ في شوق خطاهْ؟
تحتَ جُنْحَ الليل يسري خُفْيةً
في سبيل الله والحقِّ سُراء
يقطع الليلَ مَسيرًا، فإذا
وشَت الشمسُ به، ألقى عصاه
وقريشٌ خلفَه لاهثةٌ
تسأل الركبانَ عنه والمشاة
فكأنَّ البرقَ في خَطْفَتِهِ
أعْيُنٌ شزراءُ، وَدَّتْ لو تراه
وكأن الطودَ في إطراقِهِ
سامعٌ تُنْصِتُ منه أُذُناه
وكأن الرملَ يُحْصِي خطوَه
وكأن النجمَ من بعض الوُشاة
غير أن الركبَ يمضي ثابتًا
وشعاراه: اتْئادٌ، وأناة
ويقينٌ بالذي يحرسُه
من يلذ بالله لم يَخْشَ سواه
في سبيل الله يمشي آمنًا
كيف يخشى وَهْو يمشي في حِماه؟
قِلَّةٌ لكنها في عزمةٍ
لا قليلٌ ذَرْعُها أو مُتنَاه
ما نجومُ الليل إن قيست بها؟
ما رمالُ البيد؟ ما قَطْرُ المياه؟
لا دُروعٌ سابغات، لاقنا
مشرعاتٌ، لا سيوفٌ منتضاه
قوة الإيمانِ تُغْني ربَّها
عن غِرار السيف أو سنِّ القناة
ومن الإيمان: أَمنٌ وارف
ومن التقوى: حصونٌ للتقاة
ركبُ طه وأبي بكر سَرى
في حواشي الليلِ؛ فانجابَ دجاه
ما اهتدى بالنجم في جنح الدُّجى
بل سرى النجمُ لعَمْري في سَناهْ
آه لو تعرف أطباقُ الثرى
من أقلَّت أرضُها الصمَّاءُ آه
لو دَرَتْ من حملتْهُ، لثمت
قدميه حين تخطو قدماه
واستحالت جنةً وارفةً
من نخيل بائعٍ، دان جَناه
لو دَرَى المُزنُ به ظلَّلَهُ
من هجيرٍ يشتكي الضبُّ لظاه
وهَمَي مَاءً عليه باردًا
وحميمًا فوق من يبغي أذاه
لو دَرَى الفقرُ بمن يجتازهُ
ضجَّ بالتسبيح والذكر حَصاه
لو درى الدَّوْحُ بمن مَرَّ بهِ
لحني الدوحُ له شمَّ الجبِاه
لو درى الوحش به، ما نفرت
طبيةٌ منه، ولا فَرَّت مهاه
لو درى الطير به، ما أجفلت
منه ورقاءُ، ولا ريعَتْ قطاه
من هو الركبُ؟ نبيُّ مرسَل
وحواريٌّ تهدي بهداه
رَجُلاء بهما الدارُ نَبَتُ
فغزا العالمَ طُرًّا رجلاه
ومشى التاريخُ من خلفهما
مرهفَ الآذانِ تَرْنو مُقلتاه
في يديه لَوْحُه، ما همَسَا
همسة إلا وخطتها يداه
إن يكن هاجر منها كارِهًا
فَغَدًا يأتي على رأسِ الغزاة
وغدًا يُشْعلها بيضاءَ في
بلدٍ جَارَ عليهِ ونفاه
وغدًا يعفو، ولو شاءَ غَدَا
كلُّ مكيِّ غريقًا في دماه
وغدًا يجني رءوسًا أينعت
في القصاص العدل للناس حياه
ومن العفو: ضرارٌ، وأَذَى
ومن العفو: عقابٌ للجُناة
حلَّ ركبُ المصطفى في يثربٍ
كيف لا، واللهُ يَرْعَ من رعاه؟
رحَّبَتْ يثربُ، بل ألقت على
أُذُن الدهرِ هُتافًا؛ فَوَعاه
«طلع البدر»: نشيدٌ خالد
كلما ردَّدَه الدَّهرُ شجاه
بئِّرَ الشِّرْك بموت عاجِل
أيها الشركُ، دَنَا يومُ الوفاة
أيها الأنصارُ، هذا يومُكم
يا سيوف اللهِ في حربِ الطغاة
اذكري، يا بدرُ، ما شاهدتهِ
من جنود الله في حربِ عداه
واحكِ، يا إيوان كسرى، للوَرَى
ذلك البرج المُعَلَّى: من محاه؟
وارو، يا يرموكُ، ماذا صَنَعتْ
برءوس الرومِ أَسيافُ الكماه؟
يا طَرِيدًا، ملأ الدنيا اسمُه
وغَدَا لحنًا على كل الشفاه
وغدت سِيرتُه أُنشودةً
يتلقَّاها رُواةٌ عن رواه
ليت شعري: هل درى من طاردوا
عابدو اللات، وأتباع مناه؟
هل دَرَتْ من طاردتْه أُمةٌ
هُبَلٌ معبودُها؟ شاهَتْ وشاه
طارَدت في الغارِ مَنْ بوَّأَها
مَقْصِدًا لا يبلغ النجمُ مداه
طارَدتْ في البيد مَنْ شادَ لها
دينُه في الأرضِ جاهًا أيَّ جاه
سؤدد عالي الذُّرَا ما شادهُ
قيصرٌ يومًا، ولا كسرى بناه
ورأى التاريخُ ما أذهلهُ
فانثنى مِنْ دَهْشتِهِ يَفْغرُ فاه
هالهُ فتحٌ ترامي أفْقُه
وأَذانٌ ردَّدَ الكونُ صداه
ومحاريبٌ بشرق الأرض، أو
غربِها تَشْدُو بتكبيرِ الإله
يُهْرَع الناسُ إليها زُمَرًا
كلما نادى المنادي للصلاة
أيُّ دينٍ ذلك الدينُ الذي
حَوَّل الأفكارَ عن كلِّ اتجاه؟
صَهَرَ الأنفُسَ حتى لم تعُدْ
تدركُ الأنفسُ شيئًا ما عداه
كم أب خاصم في الله ابنَهُ
وأخٍ حارب في الله أخاه
باسمه أمْسَى يسُوسُ الأرض مَنْ
يحلبُ النوقَ، ومَنْ يرعى الشِّيَاه
ويجوبُ البحرَ من لم يَرَهُ
غيرَ طْيف من خَيالٍ في كراء
ناشِرًا من فوقه أعلامَه
تفزَعُ العِقْبانُ منها والبُزَاة
لم يكن طه لعَمْري ساحرًا
يخرِقُ العادات يَتْلو رُقاة
كلُّ ما جاءَ به من معجزٍ
سحَر الألبابَ: قرأنٌ تلاه
مُرسَلٌ نال بآي الذكرِ ما
لم ينلْ من قبلُ موسى بعصاه
وحَّد العُرْبَ، وكانوا بَدَدًا
مثلما يخرجُ طَلْعٌ منْ نواه
فإذا التيجانُ تهوِي، وإذا
بِرُعاةِ الإبْلِ للدنيا رُعاه
351 Total read