لَيهْنك، يا أبولُّوا، الانتصارُ
بربك: كيف طرْت بهم وطَاروا؟
وكيف حملت ركبَكِ في سلامٍ
فقرَّبِهم على القمر القرار؟
وكنا نـحسَبُ الأفلاكَ خلقًا
غريبًا لا يَزُور ولا يزَار
فكيف استأَنَسَتْ بك، يا أبولُّو
وكَمْ جَمَحَتْ؛ ولجَّ بها النِّفار؟
على هامات أهلك من قصيدي
ومن شِعْرِ الحسَانِ الغيدِ غار
فمَنْ «كولومبُ» إن قيل: اكتشافٌ؟
ومَنْ «أدِسُونُ» إن قيل: ابتكار؟
بربك: كيف سرت على طريق
عقيمٍ؛ لم يعبِّده السِّفَار؟
ولم يمرُرْ به إلا حطامٌ
يطير من النَّيازك أو نثَار؟
فلا ريحٌ لها فيه هُبوبٌ
ولا سُحُب لها فيه انهمَار
ولاَ كُتبَتْ عليهِ لافتاتٌ
ولا يَهدي السُّراةَ به مَنار
ولا صَفَنتْ به خيل عِرَابٌ
ولا وخَدت به نوقٌ عشار
ولا خطَّ الأعاجم فيه يومًا
ولا خَطَرت به يومًا نِزَار
ولا مَنْ أصلهُ في الخلق طينٌ
ولا مَنْ أصلهُ في الخلق نار
مضى عهدُ البخار؛ فباتَ يبكي
على أطلالِ دولته البخار
ومَرْحَى بالصواريخ اللَّواتي
يدين لنا بها الفَلَك المدار
نجوم الأُفْق ما عادت وُجوهًا
عن الأنظار يحجبها خِمَار
وفيها بات يطمع مَنْ إذَا مَا
رأى الأهرامَ أدركه دُوَار
سيحملنا الأثيرُ إلى الدَّرارِي
كما حَمَلَتْ أوَالينا المِهَار
وتُتَّخَذُ المصايفُ في ذُرَاها
وتُفْجَعُ في شواطئها البحار
إلى المرِّيخ ينقُلنا قطارٌ
غدا، ويعودُ منْه بنا قطار
ويربط بيننا نَسَب، وصِهْرٌ
ويجمع بيننا فِيه اتَّجار
تعالى اللهُ! إن العلمَ نورٌ
سنَاه من سَناهُ مستعار
أفَوْقَ الأرض يُضْمَنُ -ليت شعري
بهذا الكشف للعلم انتشار؟
ويُرْسَى للسَّلام به أساسٌ
ويُكتَبُ للحضارة الازدهار؟
أمانٍ تلك؛ إن هيَ أخطأتنا
فلا نصرٌ هناك، بل اندحار
بربِّكِ، يا أبولُّو، حدِّثينا
أما في رُقْعة القمر اخضرار؟
أما في سطحه قد شُقَّ نهرٌ
ولا في أيْكه غنَّى هَزَار؟
ألا غنمٌ هناك لها ثُغَاءُ
ولا بقرٌ هناكَ له خُوَار؟
أجئنا نَذْرَعُ الآفاقَ ذرعًا
لتحوينا به الأرضُ القفار؟
سليلَ الأرض، مَاَلَكَ ظلْت طفلا
وقد شَبَّت عن الطَّوْق الصِّغار؟
ومالَكَ لا تفُوهُ لنا بحرف
أعِيٌّ ذلك منك أم احتقار؟
تُرَاك خَجِلْتَ من سوء التلاقي
فهذا الصمتُ منك لنا اعتذار؟
أخا الأقمار، مالكَ -حين زُرْنَا
حِمَاك- عَرَاكَ صَدٌّ وازْوِرَار؟
ولم يَفْرِشْ لنا الطُّرقاتِ وَرْدًا
بنوك، ولا بتسليم أشاروا؟
ومالك لا تَهَشُّ وقد قَدِمْنَا
عليك؟ أبيننا إحِنٌ وثَار؟
فلا رَحمًا رعَيْت، ولا حقوقًا
مقدَّسَةً بِهَا يَقْضِيَ الجِوَارُ
ولَوْ كُنَّا نزور أخًا كريمًا
تلقتْنا التَّحايا والعَمَار
حملا زادَنا معنا؛ فهَلاَّ
غَضِبْتَ، وقلتَ: حملُ الزاد عار؟
أحتَّى الماءُ ليس لديك ماءٌ
فلَيس لمن يَغَصُّ بك اعتصار؟
وحتى الجوُّ جوُّك ليس فيه
لنا إلاَّ صقيعٌ، أو أُوَار؟
ظننا فيك تَعْزيَةً وسلوى
لمن أنضاه فقر واعتِرار
وقلنا: فيك للطَّاوين زاد
وللشاكين من عُرْىٍ دِثارُ
وقلنا: فيك عيشُ ليس فيه
خصَامٌ بين أهلِك أو شِجَار
حَسِبنا فيك ماسًا أو نُضارًا
ولا ماسٌ لديك ولا نضار
فما عُدْنا نَذُوبُ إليك شوقًا
ولا بسَنَاك يأخذُنَا انْبهار
فكن ما شئتَ: بدْرًا، أو محاقًا
فسيان: اكتمالُك، السِّرارُ
خُمارٌ إذْ جهلْنَاك اعْتَرانا
وفارقَنَا برؤيتك الخُمارُ
وفي المجهول يسْبَحُ كلُّ فكر
كما سَبَحتْ بشارِبها العُقَار
لقد زُرْنا حِماك ونـحن نَدْري
لعمرُك أنْ زَوْرتَك انتحار
أتعلم في صخورك كم بَذَلْنَا؟
سِلِ «الدولارَ»، ينبِئْك «الدلار»!
وما أدري: أُربحٌ مُشْتَرانا
تُرابَك بالجواهرِ، أمْ خَسَار؟
أيكفي الأرضَ ومضٌ منك يَبْدُو
إذا ما الأَرضُ فَارَقَها النهار؟
وأنك عابثٌ بالموج فيها
وللموج امتدادٌ وانـحسار؟
وأنك للشُّهورِ بها حسَابٌ
وإن ضلَّوا أوائلَها وحَارُوا؟
وأنك تُلْهِمُ الشعراءَ فيها
وإن يَكُ أدركَ الشِّعْرَ البَوَار؟
وكيف لَقيتَ نيل وألدرينا
أَرانَ على مُحَيَّاك اصْفرَار؟
أتخشى أن نُغيرَ عليك يومًا
كما في الأرض غاراتٌ تُثَار؟
عَلاَمَ، وأنت أودية يَبَابٌ
يُصَالِ على ربوعك أو يُغَار؟
أتعلم أنهم هَمَسُوا وقالوا
بلا خَجَلٍ-: لمن هذا العَقَار؟
وأُمُّكَ هِرَّةٌ تَلْقَى بنيها
بفيها حين يدركها السُّعَار
يقول الناسُ -في شرق وغرب-:
فَخَارٌ لا يعادلهُ فَخَار
ومجدٌ لا يفوز به سوَى مَنْ
له دَأبٌ عليه واصْطبار
ولا يحظَى بِنَيْل المجدِ قَوْمٌ
إذا لاقتهم العَقَبَاتُ خارَوا
ومهرُ المجد -إن تَخْطُبْه- غَال
وبَعْضُ المَهْرِ مَوْتٌ واحتضار
فإن يُخْلِفْ لنا قَمَرٌ ظُنُونًا
ففي الملكوت أقمارٌ غزَار
وقبل النُّجح إخْفَاقٌ وثَان
وأول مِشْيَة الطِّفل العثَار
ويَهْمِسُ آخرون: لقد شَططْنا
متى ضاقتْ بأَهليها الدِّيار؟
علامَ الخَبْطُ في جردَاءَ، فيها
يَعزُّ الماءُ والخُبْزُ القفَار؟
كنوز الأرض خافيةٌ علينا
ولا يَبْدُو لنا إلا الإطَار
ومازالت بها: فَحْمٌ، وزَيْتٌ
ومازالت بها: عَسَلٌ يُشَار
ظننَّا أن في القمر انطلاقًا
أفي القمر انطلاقٌ أم إسَار؟
كأن النَّازِليهِ نُزُولُ سجنٍ
وأين مَضَوا فَحَوْلَهُمُو حِصَار!
تَنَفُّسُهم به داءُ عَيَاءٌ
وحَبْو الطفلِ إن هُمْ فيه سَارُوا
خَطَوْا خَطْوَ المقَيّد؛ لا يمينٌ
يُتَاحُ لها الميسرُ، ولا يَسَار
وقالوا: كلُّ مجهود بَذَلْتمُ
هناك، وكلُّ «دولارٍ» جُبَار
زرعتمْ سَرْحَةً سمَقَتْ وطالت
ولكن لا ظِلاَلَ ولا ثمار
كَشَفْتُمْ إن تكونوا قد كشفتم
لَقًى في الجوِّ، ليس له اعتبار
كشفتم ذرَّةً سبحت بأُفق
فسيحِ السَّاحِ ليس له انـحصار
لمستم شاطئَ المجهول لَمْسًا
وجَدَّ بكم إلى الأرض الفِرَار
ومن سَبَر المحيطَ فليس يَشْفى
قليلَ طموحِه إلا القرار
سلوا الأفلاك -إذ طِرْتُم إلَيْها
أكان لها من الضحك انفجار؟
وقَبْلَكُمُو بني هامانُ صرحًا
فكادَ النجمُ يدركُهُ انهيار
أضعتُمْ في الهواء كنوزَ مالٍ
وملءَ الأرض بُؤْسٌ وافتقار
وحول القدسٍ من جُوع وعُرْىٍ
أُلُوفٌ تستجيرُ؛ فلا تجار
ولقد فَتَكَتْ بنا الأمراضُ فتكًا
وأيدي الطبِّ عاجزةٌ قصَار
وأكبَرُ مَنْ ترى يَعْرُوه داءُ
فتلحقُه المَذَلَّةُ والصَّغَار
وسِرُّ حياتِكم ما زال لُغْزًا
عويصًا لم يُزَحْ عنه السِّتار
وما تلك الحياةُ؟ وكيف جئنا؟
خيارٌ ذا المجيءُ أم اضطرار؟
أُمورٌ قبلنا، اختلفوا عليها
وطال البحثُ، واتصل الحوار
فلم نعرف لهم إلا فَطِيرا
من الآراء ليس له اختمار؟
تعالوْا نبتكرْ عهدًا جديدًا
يَعُمُّ الخير فيه واليَسَار
تسودُ به: مساواةٌ، وأمن
فما في الأرض: سنَّوْرٌ، وفار
ولا مَنْ أصلُه: ذهَبٌ، ومِسْكٌ
وأصلُ سواه: مخْشَلَبٌ، وقار
ولا من زان سَحْنَتَه أبيضاضٌ
وآخرُ شَانَ سحنته اسمرَار
تعالوْا نبتكرْ مصلاً جديدًا
به في الشيب يَسْوَدُّ العذَار
فكم هدم المشيبُ حياةَ شيخٍ
وما أغناه حَزْمٌ أو وقَار
تعالَوْا نبتكرْ للحرب حلاًّ
وإلاَّ حَاقَ بالأرض الدَّمَار
ولغزُ الموت ما استعصى عليكم
فَفَخْرُكموُ بعلمكمُ اغترار
شهدتُ بأن لله اقتدارا
وغيرُ الله ليس له اقتدار
وأن الجهلَ للإنسانِ -مهما
يَزِدْ علمًا، ومعرفةً- شعَار
وأن وراءَ هذا الكونِ ربًّا
له في الكونِ أسْرارٌ كِبَار