علــى شاطـــئ البحـــر
يا رُبَّ جارية في البحر كالعلم
تراقصت فوق موج منه ملتطم
وسابحينَ على شطآنه بَرموا
بالصيف؛ فانغمسوا في مائه الشبم
والبحر لا ضائق، أو شاعرٌ بهما
لكنه ناظرٌ في ثغر مبتسم
يقول -في عجب-: كم قارةٍ ركبت
ظهري، وكم نملةٍ دبَّتْ على قدمي
يا بحر، قد سِئمَتْ نفسي الحياةَ على
وتيرة، فأرحْ نفسي في السأم
إني أتيتُكَ مصطافًا، وملتَمسًا
من مائك المعدنيِّ البرءَ من سقمي
أما الحِسَان على الشاطئ؛ فقد لمحت
شيْبي، فَهِمْتُ بها وحدي، ولم تَهِم
إذا نَظرتُ إلى حسناءَ سابحة
ناديت عَهد شبابي، وهْوَ في صمم
حسبي نسيمُ الصبا، فاملأَ بِه رئتي
ولا تحرِّكْ بأيام الصِّبَا ألمي
أغرقتُ فيكَ همومي. ليتها وقعت
في بطن حوتٍ من الحيتان ملتقمِ
إن كان شطُّك بالجنسَيْن مختلطا
فربما اختلط الجنسان في الحرم
استغفر الله! زِيُّ البيت محتشِمٌ
لكنَّ زيَّك زيٌّ غيرُ محتشم
لله منظرُك الساجي إذا بسَطَت
لك الرياح أصيلاً راحة السلمَ
ورُحْنَ ينقشن في الأمواج من صورٍ
ما ليس ينقشه الرسَّامُ بالقلم
حبابُ مائك، أَم كأَسٌ لها زبدٌ؟
وهمسُ موجك، أم شاج من النغم؟
وفوق رملك أمشي، أم على بُسُط
صفراءَ منقوشةٍ من صَنعة العجم؟
قالوا عليك: أُجاج الماء، قلت لهم
بل ماؤُك العَذْب سيالٌ بكل فم
ألم يحوِّلْ شعاعُ الشمس ماءَك من
ملْح أجاج إلى عذب من الدِّيم؟
لولاك ما هَطَلت وطفاء، أو هَدلت
ورقاءُ، أو قبَّلتْ كأسٌ شفاهَ ظمي
لم ينتسب شجرٌ إلا إليك أبًا
ولا انتمى زهَر إلا إليك نُمى
سربْتَ في طبقات الأرض مُنْسَرِبًا
فكيف أصبحتَ تيجانًا على القمم؟
وكيف طِرْتَ بلا ريش وأجنحة
في حالق الجوِّ كالعِقْبان والرخم؟
النيل يعرفُ والدَّانُوبُ أنهما
من فيضُ سحبكَ، أو من سَيْلِك العَرِم
ما سحَّ فوقك غيثٌ، أو جرى نهَرٌ
إليكَ إلا اعترافا منه بالنِّعم
كم مِنَّة لك في الأعناق تبذلها
ولا تمنُّ بها، يا حاتمَ الكرم
سرُّ الحياة -لِعَمري- أنتَ مذ نشأت
حول الضفاف، تعالى بارئُ النسَمَ!
متى ابتدأتَ على الغْبراءِ وابتدأت؟
هل أوغَلَتْ مِثْلَمَا أوغَلْتَ في القدم؟
مرَّت عليك قرونٌ ليس يحصُرُها
عدٌّ، ولم تَشْكُ من شَيبْ ولا هرم
قل لي -بربِّك-: كهل أنت، أم هرم
أم لا تزال غلامًا بالغَ الحلُم؟
يكادُ سائِلكُ الرقراقُ يخدعنا
عمَّا حوَى من وُحوش لَسْنَ في أجم
أشِرعَةَ الغابِ تقضي بين أهْلِكَ، أم
حقُّ الضعيف لديهم غيرُ مُهْتَضَم؟
هوِّنْ عليك؛ فكم في البرِّ من سمك
يلوح في صورةِ الدُولات والأُمم
قالوا: السلامُ، ولم تعرف شرائعُهم
غيرَ المخالب والأنياب من حكم
يا طالما كنتَ ميدانًا لغاشِمِهم
فَشَاب ماءَك من أطماعه بدم
وشادَ جِسْرًا على الأمواج من جُثث
فلم تعُدْ تشتكي الحيتانُ من قَرمَ
قد كنتَ، يا بحرُ، قبل اليوم تقهرُنا
وكنتَ فوق حدود الظنِّ والوهَم
حتى كشفناكَ بالعلم الحديث؛ فما
عادَتْ تحوطك أسْدَافٌ من الظلم
القوم رادُوك، بل سادوك من زَمنٍ
حتى غدَوْتَ لهم من أطْوَع الخدم
وما اكتفوا بارتياد البحر، بل سَبَحُوا
كالجنِّ في عالم الأفلاك والسُّدُم
إن كنتَ يا بحرُ عملاقًا، فأنتَ وما
تحويه في ملكوت الله كالقَزَم
وما أنالُك في شعري بِمَنْقَصَة
يكفيكَ أن خَصَّكَ الرحمنُ بالقسم
إذا تَسمعْتُ خلتُ الموجَ فيك شدَا
بذكرِ مَنْ كوَّنَ الأكوانَ من عدم