محمود درويش

1941-2008 / الجليل / فلسطين

(طباق عن ( إدوارد سعيد - Poem by محمود

نيويورك/ نوفمبر/ الشارعُ الخامسُ/
الشمسُ صَحنٌ من المعدن المُتَطَايرِ/
قُلت لنفسي الغريبةِ في الظلِّ:
هل هذه بابلٌ أَم سَدُومْ؟
هناك, على باب هاويةٍ كهربائيَّةٍ
بعُلُوِّ السماء, التقيتُ بإدوارد
قبل ثلاثين عاماً,
وكان الزمان أقلَّ جموحاً من الآن...
قال كلانا:
إذا كان ماضيكَ تجربةً
فاجعل الغَدَ معنى ورؤيا!
لنذهبْ,
لنذهبْ الى غدنا واثقين
بِصدْق الخيال, ومُعْجزةِ العُشْبِ/
لا أتذكَّرُ أنّا ذهبنا الى السينما
في المساء. ولكنْ سمعتُ هنوداً
قدامى ينادونني: لا تثِقْ
بالحصان, ولا بالحداثةِ/
لا. لا ضحيَّةَ تسأل جلاّدَها:
هل أنا أنتَ؟ لو كان سيفيَ
أكبرَ من وردتي... هل ستسألُ
إنْ كنتُ أفعل مثلَكْ؟
سؤالٌ كهذا يثير فضول الرُوَائيِّ
في مكتبٍ من زجاج يُطلَّ على
زَنْبَقٍ في الحديقة... حيث تكون
يَدُ الفرضيَّة بيضاءَ مثل ضمير
الروائيِّ حين يُصَفِّي الحساب مَعَ
النَزْعة البشريّةِ... لا غَدَ في
الأمس, فلنتقدَّم إذاً!/
قد يكون التقدُّمُ جسرَ الرجوع
الى البربرية.../
نيويورك. إدوارد يصحو على
كسَل الفجر. يعزف لحناً لموتسارت.
يركض في ملعب التِنِس الجامعيِّ.
يفكِّر في رحلة الفكر عبر الحدود
وفوق الحواجز. يقرأ نيويورك تايمز.
يكتب تعليقَهُ المتوتِّر. يلعن مستشرقاً
يُرْشِدُ الجنرالَ الى نقطة الضعف
في قلب شرقيّةٍ. يستحمُّ. ويختارُ
بَدْلَتَهُ بأناقةِ دِيكٍ. ويشربُ
قهوتَهُ بالحليب. ويصرخ بالفجر:
لا تتلكَّأ!
على الريح يمشي. وفي الريح
يعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريح.
لا بيت للريح. والريحُ بوصلةٌ
لشمال الغريب.
يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولستُ هناك, ولستُ هنا.
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان...
ولي لُغَتان, نسيتُ بأيِّهما
كنتَ أحلَمُ,
لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ
طيِّعةُ المفردات,
ولي لُغَةٌ من حوار السماء
مع القدس, فضيَّةُ النَبْرِ
لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي
والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدَ... في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ...
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ/
- منفىً هوَ العالَمُ الخارجيُّ
ومنفىً هوَ العالَمُ الباطنيّ
فمن أنت بينهما؟
لئلاّ أضيِّعها. وأنا ما أنا.
وأنا آخَري في ثنائيّةٍ
تتناغم بين الكلام وبين الإشارة
ولو كنتُ أكتب شعراً لقُلْتُ:
أنا اثنان في واحدٍ
كجناحَيْ سُنُونُوَّةٍ
إن تأخّر فصلُ الربيع
اكتفيتُ بنقل البشارة!
يحبُّ بلاداً, ويرحل عنها.
]هل المستحيل بعيدٌ؟الى آخر الأغنية[
- إذن, قد يصيبكَ داءُ الحنين؟
وأبعد. حُلْمي يقودُ خُطَايَ.
ورؤيايَ تُجْلِسُ حُلْمي على ركبتيَّ
كقطٍّ أليفٍ, هو الواقعيّ الخيالي
وابن الإرادةِ: في وسعنا
أن نُغَيِّر حتميّةَ الهاوية!
- والحنين الى أمس؟
ليفهم تَوْقَ الغريب الى أدوات الغياب.
وأمَّا أنا, فحنيني صراعٌ على
حاضرٍ يُمْسِكُ الغَدَ من خِصْيَتَيْه
- ألم تتسلَّلْ الى أمس, حين
ذهبتَ الى البيت, بيتك في
القدس في حارة الطالبيّة؟
في تَخْت أمي, كما يفعل الطفل
حين يخاف أباهُ. وحاولت أن
أستعيد ولادةَ نفسي, وأن
أتتبَّعُ درب الحليب على سطح بيتي
القديم, وحاولت أن أتحسَّسَ جِلْدَ
الغياب, ورائحةَ الصيف من
ياسمين الحديقة. لكن ضَبْعَ الحقيقة
أبعدني عن حنينٍ تلفَّتَ كاللص
خلفي.
- وهل خِفْتَ؟ ماذا أخافك؟
لوجهٍ. وقفتُ على الباب كالمتسوِّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون
فوق سريري أنا... بزيارة نفسي
لخمس دقائق؟ هل أنحني باحترامٍ
لسُكَّان حُلْمي الطفوليّ؟ هل يسألون:
مَن الزائرُ الأجنبيُّ الفضوليُّ؟ هل
أستطيع الكلام عن السلم والحرب
بين الضحايا وبين ضحايا الضحايا, بلا
كلماتٍ اضافيةٍ, وبلا جملةٍ اعتراضيِّةٍ؟
هل يقولون لي: لا مكان لحلمين
في مَخْدَعٍ واحدٍ؟
لا أنا, أو هُوَ
ولكنه قارئ يتساءل عمَّا
يقول لنا الشعرُ في زمن الكارثة؟
دمٌ,
ودمٌ,
ودَمٌ
في بلادكَ,
في اسمي وفي اسمك, في
زهرة اللوز, في قشرة الموز,
في لَبَن الطفل, في الضوء والظلّ,
في حبَّة القمح, في عُلْبة الملح/
قَنَّاصةٌ بارعون يصيبون أهدافهم
بامتيازٍ
دماً,
ودماً,
ودماً,هذه الأرض أصغر من دم أبنائها
الواقفين على عتبات القيامة مثل
القرابين. هل هذه الأرض حقاً
مباركةٌ أم مُعَمَّدةٌ
بدمٍ,
ودمٍ,
ودمٍ,
لا تجفِّفُهُ الصلواتُ ولا الرملُ.
لا عَدْلُ في صفحات الكتاب المقدَّس
يكفي لكي يفرح الشهداءُ بحريَّة
المشي فوق الغمام. دَمٌ في النهار.
دَمٌ في الظلام. دَمٌ في الكلام!
يقول: القصيدةُ قد تستضيفُ
الخسارةَ خيطاً من الضوء يلمع
في قلب جيتارةٍ, أو مسيحاً على
فَرَسٍ مثخناً بالمجاز الجميل, فليس
الجماليُ إلاَّ حضور الحقيقيّ في
الشكلِ/
في عالمٍ لا سماء له, تصبحُ
الأرضُ هاويةً. والقصيدةُ إحدى
هِباتِ العَزَاء, وإحدى صفات
الرياح, جنوبيّةً أو شماليةً.
لا تَصِفْ ما ترى الكاميرا من
جروحك. واصرخْ لتسمع نفسك,
وأصرخ لتعلم أنَّكَ ما زلتَ حيّاً,
وحيّاً, وأنَّ الحياةَ على هذه الأرض
ممكنةٌ. فاخترعْ أملاً للكلام,
أبتكرْ جهةً أو سراباً يُطيل الرجاءَ.
وغنِّ, فإن الجماليَّ حريَّة/
أقولُ: الحياةُ التي لا تُعَرَّفُ إلاّ
بضدٍّ هو الموت... ليست حياة!
يقول: سنحيا, ولو تركتنا الحياةُ
الى شأننا. فلنكُنْ سادَةَ الكلمات التي
سوف تجعل قُرّاءها خالدين - على حدّ
تعبير صاحبك الفذِّ ريتسوس...
وقال: إذا متّ قبلَكَ,
أوصيكَ بالمستحيْل!
سألتُ: هل المستحيل بعيد؟
فقال: على بُعْد جيلْ
سألت: وإن متُّ قبلك؟
قال: أُعزِّي جبال الجليلْ
وأكتبُ: 'ليس الجماليُّ إلاّ
بلوغ الملائم'. والآن, لا تَنْسَ:
إن متُّ قبلك أوصيكَ بالمستحيلْ!
عندما زُرْتُهُ في سَدُومَ الجديدةِ,
في عام ألفين واثنين, كان يُقاوم
حربَ سدومَ على أهل بابلَ...
والسرطانَ معاً. كان كالبطل الملحميِّ
الأخير يدافع عن حقِّ طروادةٍ
في اقتسام الروايةِ/
نَسْرٌ يودِّعُ قمَّتَهُ عالياً
عالياً,
فالإقامةُ فوق الأولمب
وفوق القِمَمْ
تثير السأمْ
وداعاً,
وداعاً لشعر الألَمْ!
217 Total read