محمود درويش

1941-2008 / الجليل / فلسطين

مزامير - Poe

أحبك، أو لا أحبك
أذهب، أترك خلفي عناوين قابلة للضياع.
و أنتظر العائدين، و هم يعرفون مواعيد موتي و يأتون.
أنت التي لا أحبّك حين أحبّك، أسوار بابل
ضيّقة في النهار، وعيناك واسعتان، ووجهك
منتشر في الشعاع
كأنك لم تولدي بعد. لم نفترق بعد. لم تصرعيني
وفوق سطوح الزوابع كلّ كلام جميل ،و كل
لقاء وداع
و ما بيننا غير هذا اللقاء، و ما بيننا غير هذا الوداع.
أحبّك، أو لا أحبذك
يهرب مني حبيبي ،و أشعر أنك لا شيء أو كل شيء.
و أنك قابلة للضياع
أريدك، أو لا أريدك
إن خرير الجداول محترق بدمي، ذات يوم أراك،
و أذهب
و حاولت أن أستعيد صداقة أشياء غابت_ نجحت
و حاولت أن أتباهى بعينين تتسعان لكل خريف
نجحت_ و حاولت أن أرسم اسما يلائم زيتونة
حول خاصرة_ فتناسل كوكب
أريدك حين أقول أنا لا أريدك
و جهي تساقط، نهر بعيد يذوب جسمي و في السوق
باعوا دمي كالحساء المعلب
أريدك حين أقول أريدك
يا امرأة وضعت ساحل البحر الأبيض المتوسط في
حضنها.. و بساتين آسيا على كتفيها.. و كلّ
السلاسل في قلبها
أريدك، أو لا أريدك
إنّ خرير الجداول. إن حفبف الصنوبر. إنّ هدير
البحار، وريش البلابل محترق في دمي_ ذات
يوم أراك، و أذهب
أغنّيك، أو لا أغنّيك
أسكت، أصرخ. لا موعد للصراخ و لا موعد
للسكوت. و أنت الصراخ الوحيد و أنت السكوت
الوحيدّ
تداخل جلدي بحنجرتي، تحت نافذتي تعبر الريح
لابسة حرسا. و الظلام بلا موعد. حين ينزل
عن راحتّي الجنود
سأكتب شيئا
و حين سينزل عن قدميّ الجنود
سأمشي قليلا
و حين سيسقط عن ناظريّ الجنود
أراك.. أرى قامتي من جديد
أغنّيك،أو لا أغنّيك
أنت الغناء الوحيد، و أنت تغنّيني لو سكتّ. و أنت
السكوت الوحيد

في الأيام الحاضرة
أجد نفسي يابسا
كالشجر الطالع من الكتب
و الريح مسألة عابرة
أحارب.. أو لا أحارب؟
ليس هذا هو السؤال
المهمّ أن تكون حنجرتي قوية
أعمل.. أو لا أعمل؟
ليس هذا هو السؤال
المهمّ أن أرتاح ثمانية أيام في الأسبوع
حسب توقيت فلسطين
أيّها الوطن المتكرر في الأغاني و المذابح،
دلّني على مصدر الموت
أهو الخنجر.. أم الأكذوبة؟
لكي أذكر أن لي سقفا مفقودا
ينبغي أن أجلس في العراء
و لكيلا أنسى نسيم بلادي النقي
ينبغي أن أتنفس السل
و لكي أذكر الغزال السابح في البياض
ينبغي أن أكون معتقلا بالذكريات.
و لكيلا أنسى أن جبالي عالية
ينبغي أن أسرّح العاصفة من جبيني.
و لكي أحافظ على ملكية سمائي البعيدة
يجب ألاّ أملك حتى جلدي
أيّها الوطن المتكرر في المذابح و الأغاني
لماذا أهرّبك من مطار إلى مطار
كالأفيون
و الحبر الأبيض
و جهاز الإرسال؟
أريد أن أرسم شكلك
أيّها المبعثر في الملفات و المفاجآت
أريد أن أرسم شكلك
أيّها المتطاير على شظايا القذائف و أجنحة العصافير
أريد أن أرسم شكلك
فتخطف السماء يدي
أريد أن أرسم شكلك
أيّها المحاضر بين الريح و الخنجر
أريد أن أرسم شكلك
كي أجد شكلي فيك
فأتهم بالتجريد و تزوير الوثائق و الصور الشمسية
أيّها المحاصر بين الخنجر و الريح
و يا أيّها الوطن المتكرر في الأغاني و المذابح
كيف تتحول إلى حلم و تسرق الدهشة
لتتركي حجرا
لعلّك أجمل في صيرورتك حلما
لعلك أجمل
لم يبق في تاريخ العرب
اسم أستعيره
لأتسلّل به إلى نوافذك السريّة
كل الأسماء السرية محتجزة
في مكاتب التجنيد المكيفة الهواء
فهل تقبل اسمي_
اسمي السري الوحيد_
محمود درويش ؟
أما اسمي الأصلي
فقد انتزعته عن لحمي
سيط الشرطة و صنوبر الكرمل
أيّها الوطن المتكرر في المذابح و الأغاني
دلّني على مصدر الموت
أهو الخنجر
أم الأكذوبة؟

يوم كانت كلماتي
تربة
كنت صديقا للسنابل
يوم كانت كلماتي
غضبا
كنت صديقا للسلاسل
يوم كانت كلماتي
حجرا
كنت صديقا للجداول
يوم كانت كلماتي
ثورة
كنت صديقا للزلازل
يوم كانت كلماتي
حنظلا
كنت صديق المتفائل
حين صارت كلماتي
عسلا
غطّى الذباب
شفتي

تركت وجهي على منديل أمّي
و حملت الجبال في ذاكرتي
ورحلت
كانت المدينة تكسر أبوابها
و تتكاثر فوق سطوح السفن
كما تتكاثر الخضرة في البساتين التي تبتعد
إنني أتكيء على الريح
يا أيتها القامة التي لا تنكسر
لماذا أترنح؟.. و أنت جداي
و تصقلني المسافة
كما يصقل الموت الطازج وجوه العشاق
و كلما ازددت اقترابا من المزامير
ازددت نحولا
يا أيتها الممرات المحتشدة بالفراغ
مت أصل؟
طوبى لمن يلتف بجلده
طوبى لمن يتذكر اسمه الأصلي بلا أخطاء
طوبى لمن يأكل تفاحة و لا يصبح شجرة
طوبى لمن يشرب من مياه الأنهار البعيدة
و لا يصبح غيما
طوبى للصخرة التي تعشق عبوديتها
و لا تختار حرية الريح

أكلما وقفت غيمة على حائط
تطايرت إليها جبهتي كالنافذة المكسورة
ونسيت أني مرصود بالنسيان
وفقدت هويتي؟
إنني قابل للانفجار
كالبكارة
وكيف تتسع عيناي لمزيد من وجوه الأنبياء؟
إتبعيني أيتها البحار التى تسأم لونها
لأدلك على عصا أخرى
إنني قابل للأعجوبة
كالشرق
أنا حالة تفقد حالتها
حين تكفّ عن الصراخ
هل تسمّون الرعد رعدا والبرق برقا
إذا تحجّر الصوت، وهاجر اللون؟
أكلما خرجت من جلدي
ومن شيخوخة المكان
تناسل الظلّ، وغطاني..ظ
أكلما أطلقت رياحي في الرماد
بحثا عن جمرة منسيّة
لا أجد غير وجهي القديم الذي تركته
على منديل أمي؟
إنني قابل للموت
كالصاعقة
أشجار بلادي تحترف الخضرة
وأنا أحترف الذكرى
والصوت الضائع في البرية
ينعطف نحو السماء، ويركع
أيّها الغيم! هل تعود؟
لست حزينا إلى هذا الحدّ
ولكن ،لا يحب العصافير
من لا يعرف الشجر
ولا يعرف المفاجأة
من اعتاد الأكذوبة
لست حزينا إلى هذا الحد
ولكن، لا يعرف الكذب
من لم بعرف الخوف
أنا لست منكمشا إلى هذا الحد
ولكن الأشجار هي العالية
سيداتي، آنساتي، سادتي
أنا أحبّ العصافير
وأعرف الشجر
أنا أعرف المفاجأة
لأني لم أعرف الأكذوبة
أنا ساطع كالحقيقة والخنجر
ولهذا أسألكم
أطلقوا النار على العصافير
لكي أصف الشجر
أوقفوا النيل
لكي أصف القاهرة
أوقفوا دجلة أو الفرات أو كليهما
لكي أصف بغداد
أوقفوا بردى
لكي أصف دمشق
واوقفوني عن الكلام
لكي أصف نفسي

ظلّ النخيل، و آخر الشهداء، و المذياع يرسل صةرة
صوتية عن حالة الأحباب يوميّا، أحبّك في
الخريف و في الشتاء
_لم تبك حيفا، أنت تبكي، نحن لا ننسى تفاصيل
المدينة، كانت امرأة، و كانت أنبياء
البحر! لا، البحر لم يدخل منازلنا بهذا الشكل
خمس نوافذ غرقت و لكن السطوح تعج
بالعشب المجفف و السماء
و دعت سجاني سعيدا كان بالحرب الرخيصة
آه يا وطن الفرنفل و المسدس لم تكن أمي معي
وذهبت أبحث عنك خلف الوقت و المذياع شكلك
كان يكسرني و يتركني هباء
كان الكلام خطيئة و الصمت منفى و الفدائيون
أسرى توقهم للموت في واديك كان الموت تذكر
الدخول إلى يديك و كنت تحتقر البكاء
و الذكريات هوية الغرباء أحيانا و لكن الزمان
يضاجع الذكرى و ينجب لاجئين و يرحل
الماضي و يتركهم بلا ذكرى أتذكرنا و ماذا
لو تقول بلى أنذكر كل شيء عنك ماذا
لو تقول بلى و في الدنيا قضاة يعبدون الأقوياء
من كل نافذة رميت الذكريات كقشرة البطيخ
و استلقيت في الشفق المحاذي للصنوبر ( تلمع
الأمطار في بلد بعيد تقطف الفتيات خوخا غامضا
و الذكريات تمرّ مثل البرق في لحمي و ترجعني
إليك إليك إن الموت مثل الذكريات كلاهما
يمشي إليك إليك يا وطنا تأرجح بين كل
خناجر الدنيا و خاصرة السماء
ظل النخيل و آخر الشهداء و المذياع يرسل صورة
صوتية عن حالة الأحباب يوميا أحبك في
الخريف و في الشتاء

حالة الاحتضار الطويلة
أرجعتني إلى شارع في ضواحي الطفولة
أدخلتني بيوتا..قلوبا
..سنابل
منحتني هوية
جعلتني قضيّة
حالة الاحتضار الطويلة
كان يبدو لهم
أنني ميّت ،و الجريمة مرهونة بالأغاني
فمرّوا، و لم يلفظوا اسمي
دفنوا جثتي في الملفات و الانقلابات
و ابتعدوا
(و البلاد التي كنت أحلم فيها_ سوف
تبقى البلاد التي كنت أحلم فيها)
كان عمرا قصيرا
و موتا طويلا
و أفقت قليلا
و كتبت اسم أرضي على جثتي
و على بندقيّة
قلت: هذا سبيلي
و هذا دليلي
إلى المدن الساحليّة
و تحركت
لكنهم قتلوني
دفنوا جثتي في الملفات و الانقلابات
و ابتعدو.ا
(و البلاد التي كنت أحلم فيها
سوف تبقى البلاد التي كنت أحلم فيها)
أنا في حالة الاحتضار الطويلة
سيّد الحزن
و الدمع مع كل عاشقة عربيّة
و تكاثر حولي المغنّون و الخطباء
و على جثتي ينبت الشعر و الزعماء
و كل سماسرة اللغة الوطنيّة
صفذقوا
صفّقوا
صفقوا
و لتعش
حالة الاحتضار الطويلة
حالة الاحتضار الطويلة
أرجعتني إلى شارع في ضواحي الطفولة
أدخلتني بيوتا.. قلوبا سنابل
جعلتني قضيّة
منحتني هويّة
و تراث السلاسل

إني أتأهبّ للانفجار
على حافة الحلم
كما تتأهب الآبار اليابسة
للفيضان
إني أتأهّب للانطلاق
على حافة الحلم
كما تتأهب الحجارة
في أعماق المناجم الميتة
إني أتحفّز للموت
على حافة الحلم
كما يتحفز الشهيد للموت
مرة أخرى
إني أتأهّب للصراخ
على حافة الحقيقة
كما يتأهب البركان
للانفجار

الرحيل انتهى
من يغطي حبيبي
كيف مر المساء المفاجيء
كيف اختفى
في عيون حبيبي ؟
الرحيل انتهى
أصدقائي يمرون عني
أصدقائي يموتون فجأة
في جناح السنونو
الرحيل ابتدأ
حين فر السجين
ما عرفت الضياع
في صرير السلاسل
كان لحمي مشاع
كسطوح المنازل
لعدوي و لكن
ما عرف الضياع
في صرير السلاسل
أصدقائي يمرون عني
أصدقائي يموتون فجأة

أداعب الزمن
كأمير يلاطف حصانا
و ألعب بالأيام
كما يلعب الأطفال بالخرز الملون
إني أحتفل اليوم
بمرور يوم على اليوم السابق
و أحتفل غدا
بمرور يومين على الأمس
و أشرب نخب الأمس
ذكرى اليوم القادم
و هكذا.. أواصل حياتي1
عندما سقطت عن ظهر حصاني الجامح
و انكسرت ذراعي
أوجعتني إصبعي التي جرحت
قبل ألف سنة
و عندما أحييت ذكرى الأربعين لمدينة عكا
أجهشت في البكاء على غرناطة
و عندما التفّ حبل المشنقة حول عنقي
كرهت أعدائي كثيرا
لأنهم سرقوا ربطة عنقي
نرسم القدس
إله يتعرّى فوق خطّ داكن الخضرة.أشباه عصافير تهاجر
و صليب واقف في الشارع الخلفيّ. شيء يشبه البرقوق
و الدهشة من خلف القناطر
و فضاء واسع يمتدّ من عورة جندي إلى تاريخ شاعر
نكتب القدس
عاصمة الأمل الكاذب ..الثائر الهارب.. الكوكب
الغائب. اختلطت في أزقّتها الكلمات الغريبة
و انفصلت عن شفاه المغّنين و الباعة القبل
السابقة
قام فيها جدار جديد لشوق جديد، و طروادة
التحقت بالسبايا. و لم تقل الصخرة الناطقة
لفظة تثبت العكس .طونى لمن يجهض النار في
الصاعقة
و تغني القدس
يا أطفال بابل
يا مواليد السلاسل
ستعودون إلى القدس قريبا
و قريبا تكبرون
و قريبا تحصدون القمح من ذاكرة الماضي
قريبا يصبح المع سنابل
آه، يا أطفال بابل
ستعودون إلى القدس قريبا
و قريبا تكبرون
و قريبا
و قريبا
وقريبا
هلّلويا
هلّلويا
238 Total read