شَجَرُ التّوتِ،
غادَرَ كُلَّ المنازلِ،
وَحْدَكِ في الحَيِّ تبقينَ غامِضَةً،
مثلَ بيتِي العتيق،
النساءُ الجميلاتُ غادَرْنَ قبل العَشيَّةِ،
وحدَكِ تبقينَ شامخةً،
وجميلَهْ..
شَجَرُ التوتِ صَوَّحَ،
والسيِّداتُ النبيلاتُ،
طَوَّحَهُنَّ العذابُ،
رِفَاقُ الطفولَةِ راحوا
ومازلتِ
سيدةَ الأصدقاءِ القُدَامى،
وَوَكْرَ الطفولَهْ..
ذاكَ وَجْهُ الصبيِّ
الذي يَتَقَافَزُ،
بين السطوح القديمَةِ،
صوتُ الصبيِّ الذي يملأُ الدارَ،
ضُمِّيهِ،
لَغْوُ العصافير أُفْقٌ لعينيهِ،
والورَقُ المتطايرُ في الريحِ،
أَجْنِحَةٌ لأغانيهٍ،
ضُمّيهِ، ضُمّيهِ
ذاكَ زمانٌ نَظِيفٌ وممتلِئٌ،
كالغصونِ الطريَّةْ..
تِلْكَ أُختي التي ودَّعَتْ،
وثيابُ الزَّفافِ عليها
وحنَّاؤُها في يَدَيْها
تزغردُ،
بين البناتِ الصغيراتِ،
ضُمّي أسَاودَها،
وَجَدَائِلَها،
والزغاريد،
ضُمّي حكايات أمي
التي تَتَفَيَّأُ مِنْ بَعْدِها،
بالصلاةِ، وبالذكريات
ظِلالُكِ تَمْتَدُّ،
مثل ضَفَائرِ أُختي
وَيَمْتَدُّ فيكِ الزّمانُ،
وأنتِ الصَبيْهْ..
تِلْكَ أمي
-التي حينَ يَبْتَلِعُ الليلُ وجهيَ-
تَلْتَفُّ مُثْقَلَةً بِعَبَاءَتِها،
وَمَخَاوفِها،
وتطوفُ المحلَّةَ
قُولي لَها:
سَيَعُودُ الصبيُّ المُدَلَّلُ
ذاك الذي كان يشردُ،
إذ تهبطُ الظلماتُ الثقيلَهْ..
كانَ نَهْرُ الطفولَةِ مُتَّصِلاً،
والليالي طويلَهْ
آخذُ الآنَ قلبيَ،
مِنْ بينِ أعْشَاشكِ المُطْمَئِنَّةِ،
مِنْ حَبَّةِ التوت،
مِنْ طَلْعِ كُلِّ البراعمِ،
أَمْسَحُ عَنْهُ الغُبارَ القديمَ،
وأحلم:
قلبيَ عُنقودُكِ الأبيَضُ الغضُّ،
ينفرِطُ الآن، في سَاحةِ البيت،
قلبيَ فَرْخُ اليمامِ،
ينطُّ من الغُصْنِ،
للغصنِ،
يلهو مع الصِبْيَةِ المَرِحِين،
وَقَلبيَ تِلْكَ الجذورُ البعيدةُ،
تطلعُ،
في كُلِّ بيتٍ من الحَيّ،
آخذُ وجهيَ،
أَمْسَحُ عَنْهُ رَمَادَ المسافاتِ،
مَنْ يَمْسَحُ الآنَ شيبي المبكّر،
لِي نَهَرٌ آخر يتواصَلُ،
يَبْدَأُ،
مِنْ حُلْمِ ذاكَ الصبيِّ المدلل،
يَبْدَأُ منكِ،
ومن صبرِ أمي التي لم تَزَلْ بَعْدُ،
شامخةً،
وجَميلَهْ..