ها أَنَذَا
-وَوَمِيضُ الدَهْشَةِ يخطفُ عَيْنَيَّ-
طَلِيقٌ، كالمِترُو في آخر ساعات الليل،
ومسكونٌ بالجوعِ الوَحْشِيْ..
خطوي يَسْتَسْلِمُ للموج
وَوَجهِي عَارٍ،
عَنْ آخرِ ثَوْبٍ مِنْ أَثوابِ الخَجَلِ الشَّرْقِيْ..
مَاذا أَتَوَقَّعُ؟!
مَسْمُوحٌ لِعُيوني،
أَنْ تَقْتَنِصَ اللحَظَاتِ الأُولَى
ولِوَجهِي،
أَنْ يَأْخُذَ شَكْلَ الأُفْقِ،
وبُعْدَ الأُفْقِ،
وألوانَ الأُفْقِ،
وِمَسْمُوحٌ لِي،
أَنْ أَصْهَلَ في أَيِّ مَكَانٍ،
مثلَ حِصَانٍ مَجَرِيْ..
'بُودَابِسْتُ' امَرأَةٌ،
تُولَدُ مِنْ زَبَدِ الدَّانُوبِ الأَزْرَقْ..
'بُودَابِسْتُ' امَرأَةٌ،
تَلْتَفُّ على جَسَدِي،
تدعوني للرقصِ،
تُخَاصِرُني في الحاناتِ،
فَأَغْرَقْ..
ها أَنَذَا،
مُسْتَلْقٍ فوقَ الأَمْوَاج،
أمامي، تَتَدَاخَلُ أَقْوَاسُ الأَلْوَانِ،
وَحَوْلِي تَتَنَاثَرُ أَوْرَاقُ الحُلم،
وَمِنْ بينِ قِلاَعِ المَجَرِ،
المُلْتَفَّةِ حَوْلَ الدَّانُوب،
تَجِيءُ امَرأَةٌ،
لا وَقْتَ لَدَيْهَا للحُزْنِ،
امَرأَةٌ تًدْعَى: مَارْتَا
'مارتا سَيِّدَةٌ،
يُمْكِنُ أَنْ تَخْتَصِرَ العالَمَ في عَيْنَيْهَا..
يُمْكِنُ أَنْ تَتَّحِدَ الأَشْيَاءُ المَمْنُوعَةُ،
بينَ شُقُوقِ يَدِي،
وَنُعُومَةِ كَفَّيْهَا'..
مارتَا تَخْطفُني مِنْ أَقْنِعَةِ الصمتِ.
وَتَصْعَدُ بِي،
تهبطُ بِي،
مِنْ سَفْحِ الجبلِ الأَثَريِّ،
'انَتَشِليني، أَيَّتُها الطِفْلَةُ،
مِنْ قَفَصِ الشَّرْقِ،
احْتَرِقي في جَسَدِي،
كالخَمْرَةِ،
ضُمِّيني للأَلَقِ المتوهجِ،
في عَيْنَيكِ'
-لماذا أَنْتَ حَزِينٌ؟
-سَيِّدتي،
مَنْ يَرحل في عَيْنَيكِ الوادِعَتَين،
لماذا يحزن؟
'آهِ،
لماذا لا أَمْلِكُ
أَنْ أُخفي هذا الوَشْمَ الشَّرْقيَّ،
لماذا؟! ...
لا أفهمُ سَيِّدتي'
الوقتُ مَسَاءْ..
الأُفْقُ رَصَاصِيُّ،
وشوارِعُ بُودَابِسْتَ،
وُجوهٌ غامِضَةٌ،
والأَشْيَاءْ
غَابَاتٌ مَسْحُورَه..
الوَقْتُ مَسَاءْ
جَسَدِي الصَّحْراء،
وَوَجْهُ السَيِّدَةِ المَجَرِيّةِ نَافُورَه..
السَيِّدَةُ المَجَرِيَّةُ،
تدخُلُ بِي أَقْرَبَ حَانٍ
مُنْفَتحٍ للموج،
الخَمْرَةُ تَصْعَدُ،
والرَّقْصُ جُنُونيٌّ،
'للرَّقْصِ طُقُوسٌ،
أَتَنَفَّسُ فيها رائِحَةَ السرِّ،
وَأَقْرأُ عَيْنَيْ مارتا،
واللُّغَةَ المَجَرِيَّةَ'،
فَلْنَرْقُصْ حتى نَتَوَحَّدَ،
حَتَّى نَتَشَظَّى
-هَلْ أَنْتَ حَزِينٌ؟
'آهِ، متى تَفْهَمُ سَيِّدَتي،
أَنَّ الحُزْنَ هويَّةُ وَجْهي العربيّ؟! .'
-حَزِينٌ؟! .. أَبَداً سَيِّدَتي
فَلْنَرْقُصْ،
هذي آخِرُ سَاعَاتِ الليل،
دَقَائِقَ،
ثُمَّ نُفيق،
فَيَخْطفُنا المِتْرو،
وَنَغيبْ..
الوَقْتُ مَسَاءْ..
الدَّرْبُ جوازُ رَحِيلٍ،
والأرضُ حَقِيبَهْ..
وَضَبَابٌ كُلُّ الأَشْيَاءْ
هَلْ يُمْكِنُ،
أن تَبْقَى بينَ يَدَيَّ الكَأْسُ،
بِدُونِ ضريبَهْ؟
كانَ قِطارُ الليلِ،
النازِلُ مِنْ 'برلين'،
رَصِيفاً للعُشَّاق،
وآخرَ وَمْضَةِ حُلمٍ.
في عَيْنَيَّ
-وداعاً مارتَا
'أَنْظُرُ.. لا أَنْظُرُ،
لا أَنْظُرُ، أَنْظُرُ...'
-هل تكتبُ شَيْئاً للذِّكْرَى؟
'ماذا أكتبُ سَيِّدَتي؟
هل يَكْفِي أَنْ أَنْقشَ حَرْفاً عَرَبيّاً،
في دَفْتَرِكِ الوَرْدِيّ؟،'
-وداعاً مارتا
مَارْتَا،
أُغْنِيَةٌ تَرْحَلُ في صَدْرِي،
للشَّرْقِ،
وَوَجْهٌ، أْلَمحُهُ
مِنْ نَافِذَةٍ في صَدْرِ قِطَارْ..
مارتا،
عصفورٌ حَطَّ على كَفيَّ،
ذاتَ مَسَاءْ..
حَاوَرَني،
عَلَّمَنِي لُغَةَ العِشْقِ،
وَطَارْ..