خير الدين الزركلي

1893-1976 / بيروت

العذراء - Poem

سَكَـنَــتْ ضوْضــاءُ مَنْ في الحــيّ _لا حـيَّ تــراهُ
وغــفــــا الــثـّـائــــــــرُ لا يـَـلْـهَــجُ إلا بـمُــنــــاهُ
رَقَــد السَّـــاهـــرُ واعْـــتـادَتْـــهُ أحــــلامُ هَـــــواهُ
وبــكــى المـُوجَـــع ، حـــتَّى بلَّـلَ الـدَّمْــعُ ثــــراهُ
غَـفَــل الـناسُ ، وللحِـــدْثـانِ والدَّهــر انـتـبـــاهُ
هَـدأَتْ ثـائـــرةُ الـلَّيْـــل ، ولاحَــتْ فـي الفضــاءِ
شُـهُــبٌ تـلـمـــعُ كالآمـــال زُهْراً كـالـرَّجـــــاءِ
طَــوَت الظُّــلْـمَــــةُ فـي أرْدانِـــهــا كُــوخَ وَقـــار
حــاطَــــهُ أَهْلـــوهُ مـِنْ زَهْــر الأَقـاحـي بإِطـارِ
وَتَــراءى البـحــرُ عــن يُـمـنــاهُ ، مَنْـشــورَ الإزارِ
ضَـمَّ عَـــذْراء وأطــفـــالاً كـــلَأْلاءِ الــدراري
وفـتـىً كـالـصُّـبــحِ أَوْ أَنـقـى - وكَـهْلاً كالنَّهـارِ
أُسْــرةٌ راضـــيــةُ العِـيـشَــة - بـاتـتْ في هَـنــاءِ
نَـعِـمــتْ - آمِــنـــةً سُــوءَ تَـصـاريـفِ القَضـاءِ
قُـرِعَ البـابُ فصاحَـتْ رَبَّــةُ المـنْــزِلِ " لَيــــلَى "
مَــنْ يَــزورُ الحـَــيَّ أو يَـطْــرُقُ هـذا البـابَ ليـلاً؟
فَتعالى الصَّـوْتُ:لا تَخْشَــيْ-فِـداكِ الرّوحُ-وَيْــلا
وافِـــدٌ : مــالَـــتْ بـــه نـحـوَكُـمُ الظَّلْمـاء مَيْـلا
فَـتَـمشَّــتْ تَــفــتَــحُ الـبــابَ - يـجُــرُّ التِّيهُ ذيـلاً
وإِذا الـطـــارق يــخـــتـــال بـــأبــــرادِ الـسّـنـــاء
طُـبِـعَــتْ فـي وَجـهِــهِ سِـيـمــا وُجـوه الـكِـبْريــاء
عَجِـبَــتْ مِـنْ شأنِـهِ فَانْقَلَـبـتْ تَـدْعـو الـشَّـقـيقــا
وإذا والــدُهــا يَســألُ : مــا الأَمــرُ ؟- مُـفـيـقـــا
حـدَّثــتْـــهُ أَنَّ في البـــابِ نَـــزيــلاً أو صــديقـــا
فَسـعــى يَسْتـقـبِــلُ الضّـيْـــفَ ويَهْـديـــهِ الطَّريقــا
مَرْحــبـاً بـالـزَّائِـــرِ الـوافِــدِ كـالـطَّــيْــفِ طَــروقـا
نَحـنُ فـي مُنْـتـصَــفِ اللَّيْـلِ عَسـى داعـي اللِّـقــاءِ
مُـوجِــبًا حَمـْـدي لِـمَــولايَ الُـمفَــدّى وثَـنــائـــي
وَجَــمَ الـوافــدُ حـيــنًا ، يَـتَـحـــرَّى مــا يَـقـــــول
وانْبـَرى يـخـطُـبُ وُدَّ الشيـخِ ,والشَّيخُ مَــلــــولُ
قـالَ : يـا مـولايَ هـذا البـيــتُ ظِـلٌّ لـي ظَلـيـــلُ
ولـكَ الفَـضْــلُ ومـهْمــا أُبْـدِ فـالـقـولُ فـضـــولُ
أنــتَ مِــن أهــلِ وِدادي ولــكَ الــذِّكْــرُ الجَميــلُ
قــال: والآنَ؟- أجــابَ الـزائــــرُ: الآنَ عَــزائــي
هُــوَ أَنْ تَـــقْــبــَلَنـــي جــارَ صـبـــاحٍ و مـســــاءِ
عجِبَ الشيـخُ، وقال : الصفحَ، إن أخطأتُ عنّـي
أنـت نِـعْـمَ الجـارُ _واقْـبــلْ واضِحَ الأعـذارِ منّـي
قــال: إنِّـي لـكَ عَـوْنٌ! قــالَ: شُـكــرًا لا تُـعِنِّــي
إنـا حْسبـي مِنكَ عَـطْفُ الوُدِّ، فـي ضَعْفي وسِنِّـي
وَدَنــتْ لَيْـلـى فَـناداهــا فَـتـى اللّـيـل: اطْمَــئِـنِّــي
جِـئـْـتـُـكُـم أخْـدُمُـكُـمْ خِـدْمــةَ مَـوْفـورِ العَـطــاءِ
إِنّــَمـــا الـخَــيْـــرُ بـخَـــيْـــرٍ وجَـــزاءٌ بـــجــــــزاءِ
بَـسَمـتْ لَيْـلى، وقــالـتْ : أنـتَ أَحْسنْـتَ فَشُكْـرا
نَـحــنُ فــي يُـسْــرٍ ، وإِنْ لـمْ تَـدَعِ الأيــامُ وفْــرا
فَـتَـطَـلَّـبْ غَـيْــرَ هـذا الـقَـصْـرِ يا موْلايَ، قَـصـْرا
قــالَ: مَــهْـلًا يــا مَــهــاةَ الحـَـيِّ إنـِّي بـــكِ أدْرى
أَنْـتِ قــدْ أَحْـبَـبْــتِـنـي، والأبُ راضٍ بِـيَ صِهــرا
بُـهِـتَــتْ مِـنْ قَـوْلِــهِ واضْـطَـرَبـتْ :- يا لَلسَّمــاء
أيُّ فــاري فِــرْيَـــةٍ يُــلْــصِــقُــها بـي - بِإِزائِــــي
وأَفـاقَ الأَخُ مِــنْ هَــجْــعَــتِـــهِ - والـلَّــيْــلُ داجِ
فـتَــصـدَّى يَــتْـبـعُ الـصَّـوْتَ وضَـوْضـاء الحِجاجِ
شَـهِــدَ الـعَــذْراءَ غَــضْـبَـى وأَبــاهُ فـي انـزِعـــاجِ
ورَأى الـضَّـيْــفَ ثـقـيــلًا مُسْــتمِـرًّا فـي لَـجـــاجِ
قـالَ: مـنْ أنـتَ؟ ومـا شَـأْنـك؟ مـا أنـتَ بـنــــاجِ
أطْـرقَ الـوافــدُ خَـتْــلًا ومـشـــى فــي خُـيــــلاءِ
ق ـ ـالَ: صـبــْراً أُيـهــا النـاشِــئُ مــا دائــي بِـــداءِ
أنـــا لــي أُمْـنِـيــةٌ لَـيْـــس لَـكُــمْ منهـــا مَنــــاصُ
لِــيَ عَــذْراؤكُـــمُ مـــا إنْ لـهـــا منِّــي مَـحـــاصُ
جَــرحْــتــنـــي بِهـواهــا والجِـراحـاتُ قِـصــاصُ
بَيـْنـنــا السِّلْــمُ إذا شِـئْــــتَ - وإلا فالرَّصـاصُ
قـال: لا يَرْضـى الفـتى العارَ-فَموْتٌ أو خَلاصُ
وَدَرى الـشّـَيــخُ مَـصـيــرَ الأمــــر- لَـلاعْــتـــداء
صـاحَ واحْـتـــاطَ ابـْنَــهُ، يَـجْـذِبُ أطرافَ الـرّداءِ
أزْمَــعَ البــاغـي نِــزالاً، فــَتَــوارَى فـاسـتــعـــدَّا
وتَــلــقَّـــاه الفـتَـــــى، والأبُ والعَــذْراءُ شــــدَّا
بَـكـَـتِ الأطفـالُ ذُعــرًا، حـيـنَ عـادَ الأمر جِــدّا
حَـسَــر العــاتـي نـِقـــابـــــًا، فــإِذا عـبــدٌ تـــردَّى
بِــرِداءِ المـجــدِ، ســاءَ الـعَـبْــدُ لِـلأشــرافِ نِــــدَّا
صَـرَخَــتْ لَيْــلى: أخـي يُـوسُــفُ زَيْــنَ النُّـبــلاء
اِطْـعَـــنِ المُـجْــرِمَ، روِّ الأرض مـنـــهُ بالـدِّمــــاءِ
زأرَ الخـصـمــانِ واشْـتـــدَّ فَـتـى الـقَـصْــرِ فَــدارا
حــولَ عبْـــدِ السُّــوءِ لا يَـأْلــو كُـرورًا وانْحِـدارا
ضَـرَبـــاتٍ بـنـِصــالٍ ، لَــــمْ تَـلِـــدْ إِلّا شـــــرارا
وفَـتـــاةُ الحـــيّ ، تَـدْعــو اللـــهَ سِــراً وجـهـــارا
رَعَـدتْ في القَـصْــرِ مـنـهــا شـهْـقـةٌ تـَقْـذفُ نـارا
قتـلَ الجـاني أخـي، شـلَّــتْ يَـد البــاغي المُـرائــي
آهِ يــا غــادِرُ أَدْمـيْـــتَ قُـلــــوبَ الــضُّــعــفــــاءِ
وَحَـنـــا الـكـهــلُ عـلـى " يــوسُـفَ " مغمِيًّا عليهِ
لا يـعــي أمـــرًا، يـفــورُ الدَّمـــعُ مـِن باصِـرَتَيْــهِ
فَصَحــا يوسُــفُ صَحْــوَ المـوتِ يدْعــو باكِيَيْـــهِ
قــالَ : أُخْـتـــي وأَبـــي! واثْـنـاهمـا بيـــنَ يدَيْــــهِ
حَـضَـنـــاهُ , فَــتَــلَـــوَّى , مُـوجَـعــاً مِـن جـانِبيْهِ
مَشْهَــدٌ يغـلِـبُ فـيــهِ الـدَّمــعُ وَصْــفَ الشّـعــراء
صَـرَعَ الـغــدْرُ عِـمــادَ الـحــيّ فَـخْــرَ الـشُّـهـداءِ
لـم يَكــدْ يُـغْـمِـــضُ عَـيـْنَـيْــهِ الفتى، حتّى تَعـالى
صَـخَـــبُ الـبـاكـيــنَ حَـوْلـَيْــهِ يـمـيـناً و شـمـالًا
أَدْركَــــتْـــــه قـــوةٌ، فـــانـتـهَــضَ الـرأْسَ فَـقـالا:
أنــــا إِنْ مِــــتُّ فـقـد أَحْـيَــيْـــتُ لـلـنّـاسِ مـِثــالا
إنّــــمــا الـحـُــر إذا سـيـمَ الأذَى يـجـهـرُ: لا, لا!
هَـكَـــذا فَـــلْـيـَـتَــلــقَّ الـمــوْتَ فِــتْــيــانُ الـوَفــاءِ
مـــا أرى فـي صَـفـحــةِ الـعــالَـمِ حــيـــًا لِلْـبقــاءِ
أبـتـي , لا تَـنْسَـنـى ، وَاحْــمِ فـتــاة الـطُّـهْـرِ أَنــتـا
فــإذا أَدْرَكَــكَ الــمـــوْتُ كـمــا مِــــتُّ عُـذِرْتـــا
كَـفْـكـفـي دَمْعَــكِ يــا لَـيْلايَ كُونـي لـيَ أُخْــتــا
تـاجُـهــا الـعِـفِّــة لا تَـرْضــَى بغَيــْرِ الطُّهْــرِ بـتّـــَا
يــا طُـفـَيْـــلاتِ أَبـــي أَصْـلـحَـكُــــنّ اللــهُ نَبْتـــا
كُــنَّ عَــوْنًـــا لِأبـيــكُــنَّ وخَـلِّـيــــنَ بُـكـــائــــي
وتَـنــاقَــلْـــــنَ حَــديــثـــي ، إنَّـــهُ رَمْـــزُ الإبـــاءِ
وَقـَضـى يُوسُـــفُ والعـذْراءُ تـبـكــي وتـنــــوحُ
فـإِذا القـــاتِـــلُ يَـدْنـــو مِــنْ أَبيهـــا، وَيَـصـيــــحُ
مـا مـَضـَى فـاتَ ولا تـرجِـعُ بـعـدَ الـفَــوْتِ روحُ
خَـلِّ عـنــكَ النَّــدبَ إِنّي لـكَ يـا شَـيْـــخُ نَصيــحُ
لَسْـتُ بالبــارِحِ هـذا البَـيْـتَ هَـيْهـاتَ الـنّـــزوحُ
فــأجــابَ الأبُ و العَـــذْراءُ : سـقــيًـا لِلْـفـنــــاءِ
مَـنْ لــنا بالمـوتِ يَمحــو مــا نُقــاسي مِـنْ عنـــاءِ
ضَحِـكَ الفـاتِــكُ مِـنْ قَـوْلَيـهِما وانْسـلّ يـدعــــو
عُـصْـبــةً كـامنــةً ، فانْهـالَ نحـوَ القصـرِ جَـمْــــعُ
بــاتَ مَــنْ في الــدَّارِ أسْـرَى وَلِدَمْعِ العَيْن هَـمْــعُ
كُـمَّــتِ الأفواهُ , كُفَّــتْ أَعْيـُنٌ ، أُوقِـرَ سَمْــــــعُ
حـارَتِ الأَلْـبــابُ ضـاقَـتْ أَنفُـسٌ ، أَقـْفـرَ رَبْــعُ
أَيْـنَ مَـنْ يُـنــقِــذُ بنــتَ النّــورِ، مِرآةَ الضِّيـــــاءِ
مِنْ مَهـاوي البُـؤْسِ والآلامِ مِـنْ أَيـدي الشَّقـــاءِ
أَيْــنَ مَـنْ يُـصْـغــي لِأَنــاتِ الْـعَذارى والْعَويـــل
أَيْــنَ مَـنْ يَضْمِدُ جُـرْح القلـبِ في الجسمِ العَليـلِ
أَيْــنَ مَـنْ يـرحَمُ ضَعْف الطِّفل في القَيْـدِ الثقيــلِ
أَيْــنَ مَـنْ يـحـنـو عـلى الأَوّاه في الأَسْـرِ الطّـويــلِ
أَيْــنَ مَـنْ يَجـــْزي جُــنــــــاةَ الشـــرِّ الـوَبــيــــــلِ
لـَيْـــسَ فـي النّـــــاسِ سَـميـعٌ أو مُجـيــبٌ للنـداء
فُـقِــدَ الـعَـطْـــفُ ..فَواهًـا للـضّعــاف البُؤَســـاءِ
90 Total read