وَجْهانِ
لَمْ تَرَ الغربةَ في وجهي
ولي رسمٌ بِعَينَيْها
طريٌّ ما تغَيَّرْ
آمِنٌ في مَطْرحٍ لا يعْتريهْ
ما اعترى وجهي
الذي جارَتْ عليهِ
دمغَةُ العُمرِ السفيهْ
كيْفَ - ربي - لا تَرَى
ما زَوَّرَ العُمرُ وحفَّر
كيفَ مرَّ العُمرُ من بعْدي
وما مرَّ
فظلَّتْ طفلةُ الأمسِ وأَصغَرْ
تغْزل الرسمَ على وجهي
وتحكي ما حكته لي مِرَارْ
عن صبيٍّ غصَّ بالدمعَةِ
في مقهى المطَار
'غِبْتَ عنِّي
والثواني مَرِضَتْ
ماتَتْ على قلبي
فما دَارَ النَّهارْ
... ليلُنَا في الأرْزِ من دهرٍ تُراهُ
أم تُراهُ البارحهْ
... صدرُكَ الطَّيِّبُ
نفسُ الدفءِ والعُنْفِ
ونفسُ الرائحَهْ
وجهك الأسمرُ...'
- أدري أنَّ لي وجهًا طريًّا
أسمرًا لا يعْتريهْ
ما اعترى وجهي
الذي جارَتْ عليهِ
دمغَةُ العُمر السفيهْ
وجهيَ المنْسوجَ من شتَّى الوجوهْ
وجهَ مَنْ راح يتيهْ
سجينٌ في قطارْ
مُرَّةٌ ليلتهُ الأولى
ومُرٌّ يومُهُ الأولُ
في أرضٍ غريبَهْ
مُرَّةً كانتْ ليَاليهِ الرتيبَهْ
طالما عضَّ على الجوعِ
على الشهوةِ حرَّى
وانطَوى يعْلِكُ ذكْرَى
يمسحُ الغَبرةَ عن أمتعة ملءَ الحقيبَهْ
حَجَرٌ تحملُهُ الدوَّامةُ الحرَّى
سجينٌ في قطَارْ
ما دَرَى ما نكهةُ الشمسِ
وما طِيبُ الغُبارْ
ورشاشُ الملحِ في ريج البحارْ
مِن أَسابيعَ وفي غرفتِهِ
تلك الكئيبهْ
تأكلُ الغبرةُ أشيَاءَ الحقيبَهْ
تأكلُ الوجهَ الذي خلَّفَهُ
لمـَّا تعرَّى
ومضى وجهًا طريًّا
ما له أَمسٌ وذِكْرى
مع الغَجَر
مَنْ تُرَى يحْتلُّ ذاكَ الفنْدقَ الريفيَّ
عُرسُ الجنِّ فيه... مُحْرَقَهْ
لَهَبُ الرقصِ
ورقصٌ في اللهَبْ
والتعَبْ
مَنْ تُرَى يتعبُ مِنْ
لينِ الزنودِ المحرقَهْ
مَنْ تُرَى يرتاحُ في حُمَّى السريرْ
صاحَ: 'هذا الكأسُ لي
من أَهرقَهْ
ضَحِكَتْ
'ثوبي الدِّمَشْقِي الحرير
لستُ أَدري, لَم أَسَلْ مَنْ مَزَّقَهْ
أَتْقَنَ الدوخةَ من خَصْرٍ لخَصْرٍ
عادَ من عُرسِ الغَجَرْ
دمغَةٌ في وجههِ
في دمهِ شلاَّلُ نارٍ
وعلى قُمْصانِهِ ألفُ أثَرْ
موجةٌ واحدةٌ في دمهِ
في زوغةِ الشمسِ
وحمَّى المعْدنِ المصْهورِ
في البركانِ, في وَهْجِ الثمارْ
موجةٌ تغزلُ في المرجِ فراشاتٍ
وتغْفو في خوابي الخمرِ
تغْفو في قوارير البَهارْ
موجةٌ فوَّرها في دمهِ
عرسُ الغَجَرْ
عاد منْه ما له ذاكرةٌ
تُحصي الصُوَرْ
عمرُهُ ثانيةٌ عَبْرَ الثواني
يتلقَّاها, وينْسى ما عَبَرْ
عمرهُ عمرُ الغَجَرْ
وله وجهُ الغَجَرْ
وجهُ من تبصُقُهُ الدوامةُ الحرَّى
فيرسو في المواني
ومحطاتِ القطَارْ
لِبَنَاتِ 'البارِ' ما في جيْبهِ
ضحكةٌ
حشرجةٌ خلفَ الستارْ
وجهُ من يتعَبُ من نارٍ
فيرتاحُ لنارْ
بعْد الحمَّى
وجهُ مَنْ يصْحو من الحمَّى
فراغٌ, شاشةٌ ترتجُّ
عينٌ مطْفأَه
وصريرُ المدفأَهْ
جنَّةُ الضجَر
وجهُ ذاك الطَّالبِ القاسي
على أعصَابِ عينٍ متعَبَهْ
في زوايا متحَفٍ, في مكتَبَهْ
وجهُهُ يعْرقُ مصْلوبًا
على سِفْرٍ عتيقْ
وعلى صمتِ الصُورْ
ووجوهٍ من حَجَرْ
ثم يرتاحُ إلى الصَّمتِ العَريقْ
حيث لا عمرٌ
يبوخُ اللونُ فيه والبريقْ
ضَجَرٌ في دمهِ
في عينهِ الصَّمتُ الذي
حجَّرَهُ طولُ الضجَرْ
وجهُهُ مِن حجَرٍ
بينَ وجوهٍ من حَجَرْ
اَلأَقنعَهْ, اَلقرينهْ, جسْرُ واترلو
لو دعاهُ عابرٌ للبيْتِ
للدفءِ, لكأسٍ مترعَهْ
سوفَ يحكي ما حكى المذياعُ
يحكي: 'سرعةُ الصَّاروخِ
تسعيرُ الريالْ
جوُّنا المشحونُ بالإِشعاعِ
والموتى بحمَّى الخوفِ
لا, شؤْمٌ, محالْ
طَيِّبٌ جوُّ العِيال
اِبتذالْ'
لو دعاهُ عابِرٌ للبيْتِ
لن يمضى معَهْ
لو دعتْهُ اِمرأَهْ
ربَّما طابَتْ لها الخمر
وطاب الشعْرُ.. نِعْمَ التوطئهْ
'ما بِنا لا ما بِنا من حاجةٍ
للضوءِ.. أَو للمدفأَهْ
ما لها فرَّتْ وغابتْ
حلوةً كانت, وكانت طيِّعَهْ
عَتْمةُ الشارعِ
والضوءُ الذي يجلو فراغ الأقنعَهْ
وقنَاعٌ مسَّهُ, حدَّقَ فيهِ
لو دعاهُ? آه لن يمضى معَهْ
'أَنْتَ! هلْ أَنتَ? بَلَى
لا, لستَ, لا, عفوًا
ضبابٌ موحل يُعْمي مصَابيحَ الطَّريقْ
إنَّ في وجهكَ بعْضَ الشبْهِ
من وجه صديقْ'
- فلأَكُنْ ذاكَ الصَّديقْ
كُنْتُ أَمشي معهُ في دربِ 'سوهو'
وهو يمشي وحدَهُ في لا مكانْ
وجههُ أَعتقُ من وجهي ولكنْ
ليس فيه أَثرُ الحمَّى
وتحفيرُ الزمانْ
وجههُ يَحْكي بأَنَّا توءَمانْ
ولماذا ساقني للجسرِ
حيْثُ الموجُ إِثْرَ الموجِ
يدوي يتدَاعى
مُدْخنَاتُ الفحْمِ تعْوي
من محطَّاتِ القطَارْ
والبخَار
وضبابٌ كالحٌ ينبعُ
من صوب البحارْ
كلُّها تغزلُ حول الجسرِ
حولي أُفعُوانًا, أُخْطُبوطًا
وَسِخَ الأظفارِ, أَشداقًا رهيبَهْ
'مُتعَبٌ أَنتَ وحضنُ الماءِ
مرجٌ دائمُ الخضرةِ, نيسانٌ
أَراجيحٌ تغَنِّي, وسريرْ
مخمليُّ اللينِ شفَّافٌ حرير
وبناتُ الماء ما زِلْنَ
على الدهرِ صبايا
ربَّما كانَ لديهنَّ
قواريرٌ من البلسمِ
أَعشابٌ, تعَازيمٌ عجيبَهْ
تمسحُ التحفيرَ عن وجهكَ
تسقيهِ غِوَى سُمْرتهِ الأولى المَهيبَهْ
لونَ لبنانٍ وطِيبَهُ'
مُتعَب, دوَّامةٌ عمياءُ
هذا اللولبُ الملتفُّ حولي
ذلك التيارُ دوني والدُّوارْ
متعبٌ.. ماءٌ.. سريرْ
متعَبٌ.. ماءٌ.. أَراجيحُ الحريرْ
متعبٌ.. ماءٌ.. دُوَارْ
وتلمَّستُ حديدَ الجسرِ
كانَ الجسرُ ينحلُّ ويهوي
صورٌ تهوي, وأَهوي مَعَها
أَهوي لِقَاعٍ لا قَرَارْ
وتلمَّستُ صديقي, أينَ أنتَ
كيفَ غابْ
اَلضبابُ الرطبُ في كفِّي
وفي حَلْقي وأعصابي ضَبابْ
ربَّما عادتْ إلى عنصُرِها الأَشياءُ
وانحلَّتْ ضبابْ
في عَتمَة الرَّحِم
خفِّفُوا الوطءَ
على أعصَابِنا يا عابرينْ
نحنُ ما مُتْنَا, تعِبنَا
من ضبابٍ وَسِخٍ
مهتريءِ الوجهِ, مُدَاجي
يتمطَّى أُفْعُوانًا, أُخطُبوطًا
وَأَحاجي
رَحِمُ الأرضِ ولا الجوُّ اللعِينْ
خفِّفُوا الوِطءَ
على أعصَابِنَا يا عابرينْ
نحنُ في عَتْمَةِ قبوٍ مُطْمئنِّ
نمسحُ الحمَّى, ونصْحو, ونغنِّي
نتخفَّى
ونخفِّي العُمرَ من دربِ السنِينْ
خفِّفُوا الوطءَ
على أعصَابِنا يا عابرينْ
الوجهانِ
بيْنَمَا أمسحُ عن وجهي
تُرابَ القبوِ, ذكراهُ
تلفَّتُّ, انحنَيتْ
فوقَ عَينَيْها, رأيتْ
وجهَ طفلٍ
غصَّ بالدمعَةِ في مقهى المطَارْ
وهي تحكي ما حَكَتْهُ لي مِرارْ
وكأَنَّ العُمْرَ ما فاتَ على زهوِ
الصَبايا وحكاياتِ الصِغَارْ
الوجه السرمدي
عشتِ في حنوةِ بيتٍ, ما وقاكِ
أَنه بيت على الصَّخْرِ تعَمَّرْ
إنَّ خلف البابِ
في صمت الزوايا
يحفرُ الموْجُ, وتدوي الْهمْهَمَهْ
إنَّ في وجهكِ آثارًا
من الموجِ, وما محَّى, وحفَّرْ
وأنا عُدتُ من التيَّارِ وجهًا
ضاعَ في الحمَّى
وفي الموج تكسَّرْ
بعْضنا ماتَ, ادفنِيهِ, ولماذا
نعْجِن الوهمَ ونطْلي الجُمْجُمَهْ
أسندِي الأَنقاضَ بالأَنقاضِ
شُدِّيها.. على صدري اطمئنِّي
سوف تخضرُّ
غدًا تخضرُّ في أعضاء طفلٍ
عمرُهُ منْكِ ومنِّي
دَمُنَا في دمِهِ يسترجعُ
الخصْبَ المغَنِّي
حُلْمُهُ ذِكرى لنَا
رجع لِما كنَّا وَكانْ
ويمر العُمرُ مهزومًا
ويَعْوي عنْد رِجلَيهِ
ورِجْلَيْنا الزمانْ