حسناء ، أي فتى رأت تصد
قتلى الهوى فيها بلا عدد
بصرت به رث الثياب ، بلا
مأوى بلا أهل بلا بلد
فتخيرته ، وكان شافعه
لطف الغزال وقوة الأسد
ورأى الفتى الآمال باسمة
في وجهها ، لفؤاده الكمد
والمال ملء يديه ، ينفقه
متشفياً إنفاق ذي حرد
ظمآن والأهواء جارية
كالسلسبيل ، مسى يرد يرد
روض من اللذات ، طيبة
أثماره ، خلو من الرصد
نعم أفانين ، يكاد لها
يختال من غلواه في برد
ماضيه ، لو يدري بحاضره
رغم الأخوة مات من حسد
سكران ، والكاسات شاهدة
إن الكؤوس لها من العدد
سكران لا يصحو كسكرته
أمساً ، وسكرته غداة غد
سكران ، وهي تزقه قبلاً
ويزقها ، وإذا تزد يزد
سكران ، وهي تمص من دمه
وتريه قلب الأم للولد
سكران ، حتى رأسه أبداً
لا يستقر لكثرة الميد
(( قالت له : نم ، نم لفجر غد
ضع رأسك الواهي على كبدي
نم ، لا تسلط يا حبيب على
مخمور جسمك قلة الجلد
عيناك متعبتان من سهر
ويداك راجفتان من جهد
- لا ، لا أنام ولا أذوق كرى
إن النهار مضى ولم يعد
لا ، لا أنام و لا أذوق كرى
أنا لست من يحيا لفجر غد
سلمى ، أحس النار سائة
بدمي ، وتجري معه في جسدي
وأحس قلبي فاغراً فمه
للحب ، للذات ، للرغد
إن ضاع يومي ، ما أسفت على
خضر الربيع وزرقة الجلد
نم لا تكابر ، كاد رأسك أن
يهوي بكأسك ، غير أن يدي
- يهوي ! .. نعم يا فتنتي ومنى
نفسي ، وزهرة جنة الخلد
يهوي ! .. ولم لا ، والشباب ذوى
وعلى شبابي كان معتمدي
لم تبق لي مني ، سوى رمق
متراوح في أضلع همد
رباه مذ يومين كنت فتى
لي قوتي وشبيبتي وغدي
واليوم ، أسرع للبلى ، وأنا
لم أبلغ العشرين أو أكد
سلماي إنك أنت قاتلي
فجميل جسمك مدفني الأبدي
وطويل شعرك صار لي كفناً
كفن الشباب ذوى وكان ندي
سلمى اطفئي الأنوار وافتتحي
هذي الكوى لنسائم جدد
ودعي شعاع الشمس يضحك لي
فشعاعها يرد على كبدي
ودعي أريج الزهر ينعشني
وهديل طر الأيكة الغرد
أنا ، إن قضيت هوى ، فلا طلعت
شمس الضحى بعدي على أحد
- أنا إن قتلتك كيف تحفظني
إن صح زعمك ، حقظ مقتصد
أو كنت مت لليلتي جهد
يا مهجتي خفف ولا تزد
- لا ، أنت محييتي ومنقذتي
من عيشي المتنكر النكد
أفأنت قاتلتي ؟ كذبت أنا
لولاك كنت أذل من وتد
لكنما العشاق ، عادتهم
ذكر المنايا ذكر مفتئد
يبكون من جزع للذتهم
أن لا تكون طويلة الأمد
قلبي لقلبك خافق أبداً
ويظل يخفق غير متئد
- إن كان ذاك ، فهذه شفتي
من يشتعل في الحب يبترد
وتصافحا فتعانقا فهما
روحان خافقتان في جسد
نهبا أويقات الصفاء ، وقد
عكفا عليهما عكف مجتهد
وترشفا كأس الغرام ، وما
تركا بها من نهلة لصدي
ومشى الهوى بهما كعادته
والبحر لا يخلو من الزبد
سنة مضت ، فإذا خرجت إلى
ذاك الطريق بظاهر البلد
ولفت وجهك يمنة ، فترى
وجهاً متى تذكره ترتعد
هذا الفتى في الأمس ، صار إلى
رجل هزيل الجسم منجرد
متلجلج الألفاظ مضطرب
متواصل الأنفاس مطرد
متجعد الخدين من سرف
متكسر الجفنين من سهد
عيناه عالقتان في نفق
كسراج كوخ نصف متقد
أو كالحباحب ، باخ لامعه
يبدو من الوجنات في خدد
تهتز أنمله ، فتحسبها
ورق الخريف أصيب بالبرد
ويكاد يحمله ، لما تركت
منه الصبابة ، مخلب الصرد
يمشي بعلته على مهل
فكأنه يمشي على قصد
ويمج أحياناً دماً . فعلى
منديله قطع من الكبد
قطع تآبين مفجعة
مكتوبة بدم بغير يد
قطع تقول له : تموت غداً
وإذا ترق ، تقول : بعد غد
والموت أرحم زائر لفتى
متزمل بالداء مغتمد
قد كان منتحراً ، لو أن له
شبه القوى في جسمه الخصد
لكنه ، والداء ينهشه
كالشلو بين مخالب الأسد
جلد على الآلام ، ينجده
طلل الشباب ودارس الصيد
أين التي علقت به غصناً
حلو المجاني ناضر الملد
أين التي كانت تقول له
ضع رأسك الواهي على كبدي ؟
مات الفتى ، فأقيم في جدث
مستوحش الأرجاء منفرد
متجلل بالفقر ، مؤتزر
بالنبت من متيبس وندي
وتزوره حيناً ، فتؤنسه
بعض الطيور بصوتها الغرد